الدولة الغائبة عن حولا تستفيق لتسطير محاضر ضبط للعائدين

0
67

تقف بلدة حولا الجنوبية على خط النار منذ أكثر من سنتين. بلدة تئن تحت وطأة القصف والتهجير، حيث تحولت يوميات الناس إلى معركة صمود صامتة. على الطريق العام بين ميس الجبل وحولا، يمكن أن ترى الحياة وهي تحاول أن تُبعث من بين الركام، بخطوات بطيئة لكنها عنيدة.

تقع بلدة حولا في أقصى الجنوب اللبناني، بمحاذاة الحدود مع فلسطين المحتلة، وتتميّز بموقعها الجغرافي المطل على السهول والوديان الخضراء. وتحيط بها كروم الزيتون والتين والتبغ وحرش سنديان و”ملّول” وصنوبر. 

يعيش بعض سكانها الذين عادوا مؤخراً على وقع ملاحقة “الدرون” الإسرائيلية. تآلفوا مع المسيّرات التي لا تفارق سماء بلدتهم وتهبط على ارتفاعات منخفضة لتتدخل في يوماتهم وتصور ماذا يأكلون ويشربون. 

حطب للتدفئة أم التجارة؟

يوم أمس انقسم أهالي القرية بين منتقد لملاحقة أجهزة الدولة لأحد السكان بتهمة قطع الحطب، وبين مرحب بحضور أجهزة الدولة لعدم القضاء على ما تبقى من أحراج. يرى المنتقدون أن الدولة تصمت عن كل خروقات العدو الإسرائيلي، الذي جرف وحرق مئات أشجار الزيتون، وتلاحق مواطناً كان يجمع الحطب للتدفئة والصمود في بيته. أما المرحبون فيرون أن ما أقدمت عليه وزارة الزراعة والقوى الأمنية من مصادرة للحطب كان ضرورياً. إذ يشاع أن الأمر لم يكن مجرد جمع حطب بل تقطيع وتجزير بحرش السنديان والملول الوحيد المتبقي على أطراف القرية، بهدف البيع. 

ويعلّق فؤاد أيوب، عضو بلدية حولا، لـ”المدن” على المقاطع المصوّرة التي انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والتي تظهر عدداً من عناصر أمن الدولة يصادرون كمية من الحطب من أحد بيوت البلدة، أن الحطب جُمع بطريقة مخالفة للقانون. لكنه يقول: “الدولة تقوم بواجبها وهذا أمر طبيعي، إلاّ أنه مستفز لأبناء البلدة الذين يقاربون الموضوع من زاوية الخسائر التي مُنوا بها، ومن زاوية معاناتهم اليومية بحثاً عن سبل للعيش. لكنهم كانوا ينتظرون وقوف الدولة عند خاطر الناس الذين يعيشون تحت الترهيب والخوف في ظل القانون الذي لم يحمِ حياتهم”.

العيش داخل الفرن

في أحد أفران المناقيش الصغيرة، يختصر تمام مصطفى، صاحب الفرن، يوميات البلدة تحت القصف والتهديد الدائم بعبارة واحدة: “عايشين على أعصابنا”. جملة تختصر شعوراً جمعياً يخيّم على سكان القرية الحدودية التي تحيا منذ شهور على وقع الطائرات المسيّرة والقصف المتقطّع والخوف من ضربة مفاجئة يكون ثمنها الدم.

يقول مصطفى: “بعد التحرير عام 2000 عدنا إلى الضيعة لنستقر، عمرنا البيوت وعدنا لحياة القرية التي لا غنى عنها. وفي عام 2003 افتتحت فرناً للمناقش في الضيعة، وهو أحد سبعة أفران في البلدة. نشتغل بالأرض ونجني قوت يومنا الذي يكفينا، جاءت حرب الإسناد وقلبت المشهد. تهجرنا من جديد وعشنا النكبة بكل ما تحمله الكلمة من معنى”.

يتابع: “خلال الحرب تعرض بيتي للقصف الذي أسكنه أنا وزوجتي، إلا أنه بعد وقف إطلاق النار قررنا العودة للضيعة لأننا لم نعد نحتمل أعباء النزوح المادية والمعنوية. عدت إلى حولا، رممت الفرن، وأضفت غرفة في داخله أسكنها اليوم أنا وزوجتي. أصبحت حياتنا كلها داخل الفرن، نعيش على صوت المسيرات التي لا تفارق السماء، والاستهدافات الإسرائيلية اليومية، سواء على البلدة أو الجوار”.

مصطفى الذي يعيش اليوم وسط الخوف الدائم، يصف كيف أصبح أي صوت كفيلًا بإثارة الذعر: “أصبح أي صوت يخيفنا، ولو كان طبشة باب سيارة أو باب عادي، السؤال الأول الذي يأتي إلى ذهننا: وين الضربة؟”. قبل الحرب كان يخبز ما يقارب 30 كيلوغراماً من الطحين يومياً، واليوم لا يعجن سوى 10 كيلوغرامات كحد أقصى، على أمل أن تُباع كلها. ويضيف: “أوقات من ميس الجبل بيشتروا من عندي، ما نجنيه يغطي مصاريفنا اليومية التي اختصرنا منها الكثير”.

أما مع حلول المساء، فيتبدل المشهد في البلدة يقول: “عندما تغرب الشمس يخيم الخوف علينا، الهدوء يشعرنا بالرهبة كون حركة السكان معدومة. عندما يحل الظلام لا أحد يخرج من بيته، كأننا نعيش في مدينة أشباح ننتظر الموت”.

العيش مع المسيّرات

في زاوية أخرى من حولا، تقف سنية قطيش أمام دكانها الصغير على الطريق العام بين ميس الجبل وحولا، شاهدة على صمود البلدة وناسها. تقول سنية: “بقينا في حولا حتى آخر لحظة”، مستذكرة القصف الذي طال دكانها القديم. بعد الحرب، لم ترضخ للخراب، فحوّلت غرفة من بيتها إلى دكان جديد، لتستأنف حياتها في المكان نفسه الذي تحبه وترفض مغادرته.

تقول سنية إنها تعتمد على ما تبيعه لعناصر الجيش اللبناني الذين يشترون حاجاتهم اليومية من عندها، مضيفة بابتسامة تعبّر عن مزيج من التحدي والمرارة: “مدبرين حالنا بالمصروف”. أما أصوات المسيّرات التي لا تفارق سماء البلدة، فقد أصبحت جزءاً من يومياتها. “تعودنا عليها… وبصراحة، البقاء هون أحسن من النزوح”، تقول بثبات، وكأنها تختصر بإصرارها حكاية بلدة بأكملها. بين دكان صغير وسماء مثقلة بالخوف، تصنع سنية يومها بصبر النساء الجنوبيات اللواتي يواجهن الحرب بالحياة.

“مش مسترجيين نحط حجر على حجر”

أما محمد نصر الله، وهو معلم عمار من حولا، فيرسم صورة قاتمة عن حال البلدة تحت الخطر الدائم. يقول لـ”المدن”: “مش مسترجيين نحط حجر على حجر”، في إشارة إلى حالة الشلل التي أصابت قطاع البناء في المنطقة بفعل الاستهدافات الإسرائيلية المستمرة. لا ورش مفتوحة ولا مشاريع قيد التنفيذ، والخوف يخيّم على كل من يفكر بالعمل أو الاستثمار.

عاد محمد إلى بيته في حولا لتخفيف المصاريف بعدما تعطلت أعماله، ويعيش اليوم من القليل الذي يجنيه ومن خيرات الأرض. يقول: “حالة الخوف والقلق اللي عايشينها ما فينا نوصفها… بس ما عنا بديل”. بين القلق المستمر وغياب فرص العمل، يجد محمد نفسه وسكان البلدة عالقين بين خيارين أحلاهما مرّ: النزوح أو التعلق بجذور الأرض مهما كان الثمن.

صوت العودة في وجه الإهمال

أما المهندس طارق مزرعاني، الذي أطلق قبل أربعة أشهر تجمعاً للمطالبة بعودة أبناء القرى الحدودية من الناقورة حتى شبعا، وبصرف التعويضات وإعادة الإعمار، فقد ارتبط اسمه مؤخراً بـ”الدرون” الإسرائيلية التي بثّت رسالة تحريضية باسمه قبل نحو عشرة أيام، بسبب نشاطه المدني كجنوبي ابن الأرض يطالب بحق العودة. يقول مزرعاني لـ”المدن”: “في حولا لا يوجد حياة”.

يوضح أن من عاد إلى البلدة لا يتجاوز 270 عائلة، أي ما لا يشكل أكثر من 5% من سكانها الفعليين غير المغتربين، وقد عادوا بالدرجة الأولى لعجزهم عن تحمل مصاريف النزوح، خصوصاً في ظل عدم صرف التعويضات حتى الآن. “فعلياً الحرب لم تتوقف، والوهم الذي خلقه الإعلام حول عودة الجنوبيين لقراهم ليس صحيحاً، وهو تضليل للحقيقة. لا يمكن القول إذا عاد 400 شخص لبلدة معينة يعني أن سكانها عادوا بالفعل”.

غير قادرين على قطاف الزيتون

قبل الحرب، كان أبناء البلدة ينعمون باستقرار معيشي واقتصادي، إذ ينتمي معظمهم إلى الطبقة الوسطى ويملكون اكتفاء ذاتياً وزراعياً. تشتهر حولا بزيتونها وجودته، لكن في الموسم الأخير لم يتمكن المزارعون من قطف ما تبقى من محصولهم. في البلدة معصرتان للزيتون لا تعملان اليوم بسبب الإهمال والوضع الأمني، بينما تبلغ نسبة الدمار فيها نحو 60%، والطرقات بمعظمها غير صالحة للتنقل، ما يشكّل أحد أبرز عوائق العودة.

يقول مزرعاني: “حولا بلدة كبيرة لا يمكن عبورها سيراً على الأقدام، اليوم يوجد دكانان، لحّام، وفرنان للمناقيش والخبز. أما باقي الحاجيات فيشتريها من عاد من أبناء البلدة من شقرا كونها الأقرب، وحالها أفضل من القرى المجاورة نسبة للدمار”.

في حولا، لا شيء يشبه الحياة الطبيعية. كل شيء معلق على خيط رفيع بين القصف والصمود، بين الخوف والبقاء، بين خبز المناقيش ورائحة الزيتون والتراب. ورغم ذلك، يصرّ أهلها على البقاء، لأن الأرض بالنسبة لهم ليست مجرد مكان… بل حياة كاملة لا يمكن مغادرتها. أما البلدية فلا حول ولا قوة لها ويختصر عضو مجلسها البلدي فؤاد أيوب الأمر: ” لا أموال في البلدية للقيام بأي مبادرات، بل يقتصر دورها على التنسيق مع جمعيات المجتمع المدني، ومع الصليب الأحمر الدولي بهدف توزيع الحصص الغذائية المتواضعة”.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا