هل أحبّت مي زيادة أنطون الجميّل؟

0
46

من الصعب أن نذكر النهضة النسائية في لبنان والشرق العربي إلا ويبرز إلى الأذهان اولا اسم مي زيادة 1886-1941. عاشت حياتها مليئة بالأثر والإنجاز والخلود. أديبة ومترجمة ومؤسسة لصالون أدبي طارت له شهرة. راسلت جبران خليل جبران من 1912 حتى وفاته عام 1931. بكلمة مي زيادة أسطورة لا تزال تحفر في الزمن. ولدت في الناصرة، فلسطين ودرست في مدارس الناصرة ثم انتقلت إلى عينطورة وتخرجت منها بتفوق وطالعت سير من اشتهرن في العالم من اديبات مثل جورج صاند ومدام دوستال وعزمت ان تمشي في الأثر. نشرت بداية باسم ايزيس كوبيا. عادت إلى لبنان وقصدت ضهور الشوير وابتنت لها كوخا أخضر في حضن الطبيعة تحول إلى مساحة لقاء لكتاب عصرها. عادت إلى مصر وكتبت في “المحروسة “مجلة ابيها والبروغره بالفرنسية وفي المقتطف والمقطم والهلال. وأسست في منزلها صالوناً أدبياً كل ثلاثاء وكان من رواده طه حسين وخليل مطران وشبلي الشميل وعباس العقاد ومصطفى عبد الرازق وإبراهيم المازني وولي الدين يكن ويعقوب صروف.

كان العام 1928 بداية أقسى الأعوام فمات على التوالي يعقوب صروف صديقها واستاذها وابواها وجبران في العام 1931. وراح جسدها ينوء أمام الهم والحزن المشقات والتعب. عادت إلى لبنان بعد أن تم بيع أثاث منزلها ومكتبتها بالمزاد العلني في القاهرة. وفي لبنان أدخلت إلى مستشفى الأمراض العقلية، وتقول “جئت ولاقيت وسائل غريبة لحمل الناس على الاعتقاد بجنوني”. في لبنان وقف إلى جانبها اثنان من الكبار انطون سعادة وأمين الريحاني. استأجر لها انطون سعادة بيتا في شارع السادات، رأس بيروت وأرسل لها أديبين من الشباب في لبنان وهما فؤاد سليمان وعبدالله قبرصي وحملا لها الأزهار تهنئة لها بالسلامة. ولما فتحت لهما الباب، قالت: “اهلا وسهلا بأزهار الأدب”. أما أمين الريحاني فنزل إلى المستشفى وناقش الاطباء وكتب ملفا دقيقا نشر بعد وفاته بعنوان ” قصتي مع مي”. وهذا الكتاب لم أقرأ له مثيلا في تاريخ الادب وحري أن يتحول إلى عمل مسرحي مميز. في هذا الكتاب هناك اعتراف بالذنب من قبل أمين ومعاينة الألم الانساني والخروج نحو الأمل وولادة ثانية لمي زيادة باسم الصداقة والحب والحقيقة. ولكن قبل الدخول في قصة مي زيادة وانطون الجميل 1887-1948 لا بد من ذكر قصص حب مي المعروفة وأهمها الحب المتبادل بينها وبين جبران وبلا لقاء وعلى عكس الذين أحبوا مي فيبدو من الرسائل أنها هي من وقعت بحبه. تقول له: “ولكني أعرف أنك محبوبي وإني أخاف الحب. كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا وكيف أفرّط فيه”. أما العقاد فكان من أكثر الشخصيات وضوحاً وصراحة في التعبير عن حبه لمي ولكنه كان شديد الغيرة من جبران. حتى إنها قالت غير مرة: مشاعره الجميلة تصلني ولكن تتملّكه الغيرة”. وهناك قصة حب مع الشيخ مصطفى عبد الرازق، شيخ الازهر. أحبها بصمت ولم يفصح. وكتب لها ثلاثة رسائل اثنتين من ألمانيا وواحدة من باريس. وبهذه الرسالة أفصح بالرقة والتعبير قائلاً: “وإني أحبّ باريس، أن فيها شبابي وأمالي ومع ذلك أتعجل العودة إلى القاهرة، ويظهر ان في القاهرة ما هو أحبّ إليّ من الشباب والأمل”. اما الشاعر ولي الدين يكن فقد قال فيها شعراّ ينزف حبا وجرأة. يقول: “أعلمت الهوى الذي أخفيه/ أي سرّ يا مي لم تعلميه”.

Image-1763245442

عندما جمع شقيقه ديوانه حذف كلمة مي وأضاف في القلب. هل مالت إليه؟ ربما اشفاقاً وكان مريضا بالربو، ولكنها كانت تلاقيه وتشكو له أزماتها. وزارته وهو مريض في بيته ولما توفي لبست الأسود حزناً عليه .

وقعت في عدد الهلال الصادر عام 1947 على مقال للناقد المصري طه الطناحي بعنوان الحب الروحي بين مي وأنطون الجميل. كان الجميل وهو الصحافي والأدبي وعضو مجلس الشيوخ المصري وصاحب مجلة “الزهور” ورئيس تحرير “الاهرام” من عام 1933 حتى وفاته عام 1948. وهناك طرفة تنسب له أثناء تحريره للأهرام فقد وصله نعي وكانت الأهرام ماثلة إلى الطبع فوقع الجميل على نشر الخبر وذيله إذا كان له مكان وجاء خبر النعي في الجريدة “توفي فلان الفلاني اسكنه الله فسيح جنانه إذا كان له مكان”. كان أنطون الجميل من أحرص الذين يحضرون صالون الثلاثاء عند مي. وكانت صلته بها صلة أدب وتقدير وتطورت إلى صداقة وإعجاب ثمّ مودة وحباً روحياً وحلماً جميلاً واملاً شاغلاً حتى أخر أيامه. في رسالة كتبها لها في 15 نيسان 1915 يقول: “قرأت يا مي ما كتبته في يوميات فتاة وتحدثت عن كورناي وراسين وموليير وفولتير وهوغو. أنت لست بالغربية عن هذه الأرواح الخالدة كما أنها ليست بالغربية عنك، فمحبو الجمال كمحبي الحقيقة أولاد طين واحد. هذه السطور يا مي علقيها على حاشية بحرف ضئيل على متن يومياتك الجميلة، فينعكس عليها شيء من نور فكرك الثاقب يجعل لها بعض الرونق في عينك المتأملة”.

كان في الثلاثين من عمره وصلته هنا لم تتجاوز الصداقة الأدبية والتقدير الشخصي. ولكنه في رسالة ثانية بتاريخ 13 حزيران 1926 نرى تطورا في العاطفة إذ يقول:” يلذ لي يا مي أن أخاطبك باسمك مجرداً من الوصف لأنه قليل إذا ما قيس بصفاتك، وكل لقب ضئيل اذا ما اقترن باسمك فاسم مي وكفاك به من وصف ولقب أصبح في هذا الجيل يرادف حسن البيان وفصاحة اللسان، ونبوغ العقل وكبر القلب”. ويذكرها بمهرجان الخمسين للمقتطف “فقد أتاح لي أن أعرف فيك فوق الكثير مما كنت أعرف من رقة الطباع وسداد الرأي والصبر على المكروه ما زادني إعجاباً برجاحة عقلك وسمو قلبك”. ويؤكد الباحث الطناحي بأن مي احتفظت بالخطبة التي ألقاها الجميل في مهرجان المقتطف وكذلك برسائله التي بعث بها إليها من 1915 حتى 1928 بين أوراقها. ويصف الطناحي تلك الفترة بالفترة العاطفية ويمرّر خبر يقول انه عرض عليها الزواج. ونصل إلى الرسائل الاخيرة وواحدة منها عام 1928 فهي تكشف عن مكونات نفسين تحمل كل منهما للأخر مودة وعاطفة صادقة. اسمعه يقول:” أيتها العزيزة، ودعتك ليلة سفري وكانت كلمة وداعك وعدا باللقاء عند عودتي”. ويسأل: “وأنت، كيف أنت؟ أرجو أن تكوني على ما أرجوه لك من الصحة والهناء.

بلغت إلى البحر ما زودتني له من سلام وتحيات. الساعة الآن متأخرة من الليل ولا يسعني الا الانتقال بالفكر إلى تلك الشرفة الشاهقة (يعني شرفة منزلها) ذات الفضل العميم علي في مثل هذه الساعة فاقف طويلا في الكتابة ضائعاً في بحار الذكريات”. ويختم: “استودعك الله يا بيبي baby على امل لقاؤكِ بخير وعافية. وقد أصبحت أنا”.

هذه بعض الفقرات من رسائل انطون الجميل إلى مي، طواها الزمن ولكن أظهرها الحبّ. وإذا كان الفراق وقع بين مي والجميل، هي بسبب المرض ومحنة مستشفى الأمراض العقلية في لبنان. وهو بسبب انشغالاته بالصحافة والسياسة. وهي إذ عتبت على كل الذين كانوا يتسابقون على لقاء الثلاثاء في صالون منزلها في القاهرة، إلا أنها لمْ تعتبْ عليه ابداً. ويذكر طه الطناحي أنه سأل الجميل عن شعاره في الحياة فكان جوابه أنه شعار مي صديقته القديمة ورفيقة النفس والروح وهو بيت الشعر الذي كانت تردده مي دائماً: “وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى/ وفارق ولكن بالتي هي أحسن”.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا