عادةً ما تكون الرحلات البرية شيئاً يتطلّع إليه معظم الأطفال بشغفٍ، فهي مليئة بالإثارة! حيث يبسط الأطفال أيديهم ووجوههم الصغيرة من النافذة، يلامسُها نسيم الهواء ويداعب شعرهم المتناثر، إلا أنّ الصورة كانت مختلفة تماماً بالنسبة لأطفال جنوب لبنان في 23 سبتمبر 2024! لم تكن رحلتهم مليئة بالفرح، بل كانت محنةً غير مخطَّط لها، تركت بعضهم عالقين على الطريق لأكثر من 12 ساعة دون طعامٍ أو ماء!! هذا الحدث المأساوي ليس سوى بدايةً لأزمةٍ متفاقمة، وبالطبع لا يمكن اعتبار هكذا وضع ملاذاً آمناً للأطفال.
يُعتَبر الأمن والاستقرار من الأساسيات الضرورية لنمو الطفل السليم، وهو ما أؤكد عليه دائماً في عملي مع الأهالي،لكن في أوقات الحرب والنزوح، يكافح الآباء أنفسهم لإيجاد أرض ثابتة، فما بالك بالعبء الملقى عليهم لتوفير الأمان والاستقرار لأطفالهم وهم أنفسهم يحاولون التأقلم مع عدم اليقين؟! تماماً مثل نصيحة السلامة في الطائرات “ضع القناع على نفسك أولاً قبل مساعدة الآخرين”، فإن الآباء هم أيضاً ناجون، يحتاجون إلى الدعم أثناء تعاملهم مع صدماتهم الخاصة، إلى جانب دورهمكمقدِّمي دعم لأطفالهم.
في أوقات الأزمات، عادةً ما تكون الإسعافات الأوّلية الطبّية هي الأولوية القصوى، إلا أن الإسعافات الأوّلية النفسية لا تقل أهمية…
منذ عام 2011 أوصت منظمة الصحة العالمية ومجموعات الخبراء الدولية الأخرى من خلال كتاب إرشادي باتّباع نهج محدد لتنظيم الإسعافات الأوّلية النفسية لمساعدة الأفراد المتضررين على الشعور بالهدوء والدعم أثناء تعاملهم مع التحدِّيات؛الإسعافات الأوّلية النفسية هي استجابة إنسانية داعمة وعملية، تحترم كرامة وثقافة وقدرات الأشخاص المتأثّرين، تتضمّن هذه الاستجابة تدخُّلات محدَّدة يقوم بها المتطوِّعون والمساعدون، حيث تستند إلى ثلاثة مبادئ رئيسية يمكن تلخيصها على النحو التالي:
• الانتباه للأشخاص الذين لديهم احتياجات أساسية عاجلة والتوجُّه إليهم.
• الاستماع إلى المتضرّرين، ومساعدتهم على الشعور بالهدوء والاستفسار عن احتياجاتهم.
• توصيلهم بأحبائهم وتقديم الدعم الاجتماعي وتوفير المعلومات اللازمة.
كما هو الحال مع الإسعافات الأوّلية الطبّية، تُبنى الإسعافات الأوّلية النفسية بالدرجة الأولى على أساسِ التعاطف والرحمة،ومن الجوانب الأساسية فيها هو إدراك أنّ ردود الفعل العاطفيةبكافةِ أوجهها هي طبيعية ومقبولة، أمّا في المجتمعات المتعاطفة والمتلاحمة مثل مجتمعنا، غالباً ما يقدِّم الناس هذا النوع من الدعم بشكل عفوي، فنحن نتكاتف معاً في أوقات الكوارث، لذا وبرغم المشاهد المأساوية التي تجتاح شاشاتنا إلا أن القلب يفرح بمشاهد التضامن والأُخُوّة في سعي المواطنين لمساندةِ بعضهم البعض بلقمةٍ هنا وفرشةٍ هناك.
أما بالنسبة للآباء والأمّهات، فعلى الرغم من كونهم ناجين أنفسهم، إنهم أيضاً مقدمو رعاية حكماً، فالآباء والأمّهات هم عالم أطفالهم كلّه، وكلما كان الطفل أصغر سناً زاد اعتمادهعلى ردود فعل والديه لمعرفة كيفية التصرُّف؛ من هنا نقوم بتشجيعالأهالي على تطبيق مبادئ الإسعافات الأوّلية النفسية الثلاث ذاتها مع أطفالهم من خلال مراقبة سلوكهم، والاستماع إلى كلماتهم المنطوقة وغير المنطوقة، والحفاظ على اتصال عاطفي قوي معهم، وتوصيلهم بما يخفّف عنهم الوضع الراهن؛ فعلى الرغم من صعوبة استعادةِ السيطرة على الموقف، ومع قلّة الدعم المتاح، يُفَضَّل أن يحاول الآباء تقديم بعض الهيكلية والروتين للأطفال وطمأنتهم بشأن أمانهم، لتخفيف وطأة الصدمات المتلاحقة المتمثّلة بأصوات الحرب ومشاهد الذعر والنزوح القسري.
لا شك أن النزوح والحرب تجربة مؤلمة لكلّ المتأثّرين بها، الناجون والأطفال بالدرجة الأولى، والمتطوِّعون والمساعدون بالدرجة الثانية، وكذلك المواطنون والمغتربون المترقّبون؛ الجميع يشعر بعدم اليقين والقلق، وهذا يتجلّى في مشاعرهم المرهقةواستجاباتهم الجسدية، وحتى أولئك الذين لم يتأثروا بشكل مباشر قد يعانون أيضاً من حالاتٍ يُطلَق عليها في علمِ النفسإرهاق التعاطف وذنب الناجي، مما يفاقم التأثير السلبي للأزمة!في أوقات التحدِّيات مثل هذه، يُنصَح بجعل التعاطف مع الذات أولوية، من خلال التعامل مع النفس بلطف وتفهُّم بدلاً من الحكم عليها، وتقديم نفس الرعاية والتعاطف للنفس كما نفعل مع المتضرِّرين، ما يمكّن الأشخاص من إدارة القلق بشكل أفضل والحفاظ إلى حدّ ما على التوازن.
أما على صعيد اللاوعي فنجد العديد من آليات التكيُّف تعمل لمعالجة الضغوطات، على أمل أن تكون الآثار السلبية المترتبة أقل صدمة؛ وهنا يمكن أن تكون الإسعافات الأوّلية النفسية رادعاً كبيراً أمام تأثير الأزمة، فقد أظهرت الدراسات أن الأشخاص الذين شعروا بأنهم مدعومون اجتماعياً خلال الأزمة كانوا قادرين على التأقلم بشكل أفضل من أولئك الذين شعروا بالعزلة، ويَصدُق هذا الأمر بشكل خاص على الأطفال والمراهقين.
هناك شائعةٌ تقول أنّ اللبنانيّ لديهِ من المرونةِ ما يكفي ويزيد،وهو الأمر الذي يساعدُه على القيامِ بنفسِهِ بعد كلِّ أزمةٍ وكلِّحرب! برأيي هذه ليست فقط مغالطة ولكنها مغالاة أيضاً! إن اللبنانيّ شديد التحايل على آليات الدفاع النفسية، بحيث أصبح الإنكار والمشاعر المكبوتة هما المألوف لديه الذي أسميناه مرونة!حذارِ من الاعتماد المفرط على الدفاعات النفسية وآليات التكيُّف!فكل شيء له حدوده، وتجاوز هذه الحدود قد يؤدي إلى الانهياروالأعراض النفسجسدية وغيرها من التسريبات النفسية؛ كم من حربٍ وأزمةٍ يمكن لوطننا أن يحمل بعد؟! كم من يتيمٍ وأرملٍ وأمّثكلى علينا أن نحصي قبل أن تتوقف هذه المراهنات على مرونةِشعبٍ استُنزِف؟!! هل من الممكن أن تكون هذه الأزمات المتلاحقة مجرَّد تحايل على الطبيعةِ البشرية كي تنشُلنا من الوقوع في فخّ أبناء طوائف تتناحر لنكون إخوةَ وطن تتساند؟