تشير تصريحات مسؤولي “حزب الله” وخطاباتهم إلى أنهم يواجهون صعوبة كبيرة في التأقلم مع الواقع الجديد، الذي أفرزته أحداث الأشهر الأربعة الأخيرة في لبنان وسوريا، وما زالوا يصرّون على التمسك بالسلاح ورفض العودة إلى الدولة كحزب سياسي بلا ميليشيا عسكرية مرتبطة عضوياً بالحرس الثوري الإيراني. وهناك محاولات واضحة للتنصّل من اتفاق وقف إطلاق النار، الذي كان الحزب هو من تفاوض عليه، عبر الرئيس نبيه بري، ووافق على شروطه. لكن تغيّر الأوضاع في سوريا منذ لحظة التوقيع عليه وضع الحزب أمام مشكل كبير، إذ انقطعت خطوط الإمداد العسكري والمالي مع إيران نتيجة سقوط نظام بشار الأسد وخروج سوريا من محور الممانعة.
ويهدّد مسؤولو الحزب بردّ فعل مختلف على الخروق الإسرائيلية المستمرّة لاتفاق وقف إطلاق النار، إنما بعد إتمام الستين يوماً، التي نصّ عليها الاتفاق لتنفيذ أهمّ بنوده: انسحاب إسرائيلي من الأراضي اللبنانية، وانتشار الجيش جنوب الليطاني، وتسليم “حزب الله” سلاحه إلى الجيش جنوب الليطاني ومنشآته العسكرية على كامل الأراضي اللبنانية. طبعاً، الحزب يتحدث فقط عن استمرار الوجود الإسرائيلي، ويرفض الاعتراف ببنود تسليم سلاحه، ويضع اللوم على الحكومة لسوء تطبيق الاتفاق. في الوقت عينه، يتحدّث قادة الحزب عن التهديدات المستجدّة، ممن يصفهم بالمجموعات الإسلامية التكفيرية في سوريا، عليه وعلى أبناء بيئته، مما يستوجب احتفاظهم بالسلاح للدفاع عن أنفسهم من هجمات عبر الحدود.
عليه، فإنّ “حزب الله” يعتمد اليوم على سرديّتين لتبرير احتفاظه بالسلاح: مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وصدّ أيّ اعتداء من إسلاميين من سوريا أو لبنان؛ وهو ما فتئ يشكّك بقدرات الجيش اللبناني، ويصف أداءه بالضعيف والعاجز عن التعامل مع التهديدات من إسرائيل وسوريا، رغم ما أظهرته الأيام الأخيرة من قدرة الجيش على التعامل بفاعليّة ضدّ أيّ تهديدات من الجانب السوري، وتمكّنه من الانتشار في الكثير من المناطق التي انسحبت منها القوات الإسرائيلية تحت ضغوط اللجنة الدولية المشرفة على وقف إطلاق النار.
وتتماشى مواقف الحزب الحالية مع تصريحات قادة الحرس الثوري الإيراني والمسؤولين في طهران، الذين يصرّون على انتصار الحزب والحاجة إلى استمرار تسليحه ودعمه لتمكينه من الصمود كقوة عسكرية في مقابل إسرائيل. وما زالت طهران عاجزة عن إعادة ابتكار استراتيجيتها الدفاعية من دون وجود دفاعها المتقدّم على حدود إسرائيل، كما أنها تعيش بقلق ممّا هو آتٍ مع قرب تسلّم إدارة الرئيس دونالد ترامب للحكم في أميركا، وتزايد الحديث عن إمكان توجيه ضربات عسكرية أميركية-إسرائيلية إلى منشآتها النووية وبنيتها التحتية. وتتحدث طهران بشكل مبهم عن قوى مسلّحة ستقوم باستعادة السيطرة على دمشق وطرد القوى التي أسقطت نظام الأسد، والتي تسيطر حالياً بدعم عربي وغربي قوي جداً. كلّ هذا يشير إلى استمرار الأمل لدى قيادات إيرانية ولدى “حزب الله” في إعادة عقارب الساعة الى الوراء وتغيير الواقع الحالي، الذي قلّص نفوذ الطرفين بشكل كبير لبنانياً وإقليمياً.
كذلك تجدر الإشارة الى أن نفوذ “حزب الله” السياسي، من خلال مقاعده في مجلس النواب، التي وفّرت له تمثيلاً حكومياً، معرّض للزوال أيضاً. فهذه القوة تأمّنت بشكل كبير عبر سلاحه الذي استخدم لقلب الموازين وترهيب المنافسين في الانتخابات والمنابر السياسية. ومن غير الواضح إن كان الحزب سيكون ممثلاً في الحكومة المقبلة، كما أن حجم تمثيله النيابي سيكون موضع شكّ إن سلّم سلاحه قبل الانتخابات التشريعية المقبلة في أيار 2026. هو يواجه خصماً قوياً على الأرض، وهو الحليف اللدود حركة “أمل”، التي تملك وجوداً قوياً وقديماً في داخل أروقة الدولة، وتملك عمقاً أفضل من الحزب في داخل العالم العربي، مما سيمكّنها من التعايش بشكل جيّد في الفترة المقبلة. وهناك قوى شيعية مستقلّة بدأت تظهر على الساحة، وسيكون لها دور أكبر مستقبلاً مع تراجع نفوذ الحزب. بالتالي، فإنّ السلاح بالنسبة لـ”حزب الله” له أهداف عدّة تصل إلى حدّ استمرار وجوده.
سيواجه العهد الجديد والحكومة المقبلة لبعض الوقت مشكلة رفض الحزب التخلّي عن سلاحه وإصرار إيران على مدّه بالمال والسلاح. وقد تشهد الساحة اللبنانية حوادث أمنية مفتعلة تنسب إلى مجموعات تكفيرية من أجل إشاعة الخوف في صفوف المسيحيين والشيعة وتبرير استمرار التسلّح. فلقد استغلّت إيران سابقاً “داعش” في سوريا والعراق لتنشر ميليشياتها والسيطرة على الساحتين، وقد نشهد أمراً مماثلاً في لبنان حيث تتهم فصائل أو تستخدم مجموعات مسلّحة في الشمال لتحقيق ذلك. إن استمرار الحديث عن خطر مجموعات إسلامية في لبنان سيعقّد حتماً العلاقات مع السلطات الحاكمة في دمشق، وسيوتّر الأوضاع على الحدود الشمالية والشرقية.
أما جنوباً، فإن “حزب الله” يواجه معضلة كبيرة في التعامل مع القوات الإسرائيلية. فهو لا يزال يراهن على أن تصل إسرائيل إلى مرحلة الإنهاك وعدم القدرة على مواصلة الحرب أو رفض ترامب دعم استمرار الحرب، مما سيسمح للحزب بالعودة إلى قواعد اشتباك قديمة تجعل الرد الإسرائيلي على هجماته محدوداً. لكن المؤشرات من تل أبيب توحي بعكس ذلك، وبإمكان عودة الحرب بقوة إذا قصف “حزب الله” شمالي إسرائيل، أو هاجم قواتها على الحدود. فتأثير الغارات والتهجير سيكون كبيراً جداً على بيئة الحزب، وقد تكلفه فقدان المزيد من شعبيته. وقد يأخذ العهد الجديد إجراءات أكثر جديّة لتجريد الحزب من سلاحه، ممّا سيعقّد موقفه.
سيتأثر “حزب الله” حتما بمجريات الأمور في لبنان وفي المنطقة، خصوصاً إذا شهدت المزيد من الضربات القوية ضد محور الممانعة في إيران واليمن. وسيساهم نجاح الجهود السياسية لإجبار فصائل “الحشد الشعبي” على التخلّي عن سلاحها وحلها في العراق في ترسيخ القناعة بأن لا جدوى من تمسّك “حزب الله” بسلاحه؛ فزخم التغيير في الشرق الأوسط ما زال قوياً وسريعاً، وهذا ما يربك الحزب، وسيضطره في آخر المطاف إلى التحوّل إلى حزب ينافس خصومه في لبنان بشكل ندّيّ ومتكافئ بلا سلاح. عصر الدويلة يزول.
رياض قهوجي- “النهار”