
في فيلم نهاد الشامي، الذي يحكي عن امرأة قست عليها الحياة قبل أن يطالها شعاع المعجزة، تجسّد جوليا قصّار شخصية حنّة، الأم المتسلطة، المتحجرة القلب، التي أحكمت قبضتها على ابنها سمعان (يوغو شلهوب) حتى جعلته امتدادًا لسلطتها، وملأت روحها بالغيرة التي نهشت كل من اقترب منه، وخصوصًا نهاد، زوجته. منذ اللحظة الأولى، تتراءى حنّة أمامنا كجدار منيع، ملامحها حادة، وعيناها تقدحان نيران الغضب، كأنها قلعة حصينة تأبى أن تسقط أمام العاطفة أو الحنان.
لكن القدر، كما يفعل دائمًا، ينقلب على من يظن أن القوة أبدية، فيصيب الفالج هذه المرأة الحديدية، فيطرحها أرضًا، ويجردها من سلاحها الأهم: السيطرة. هنا، تبدأ جوليا قصّار في تجسيد الوجه الثاني لحنّة، المرأة التي، رغم إصابتها بالشلل، ظلّ لسانها سليطًا وروحها مثقلة بالقسوة. تتحول إلى عبء لا يُحتمل، ليس فقط على نفسها، بل على نهاد، التي لم تعرف منها سوى الجفاء، لكنها رغم ذلك تمدّ لها يد العناية، تغسلها، تطعمها، تعاملها كما لو كانت والدتها، رغم أن حنّة لم تمنحها يومًا حنان الأم.
في المشهد الذي تغسل فيه نهاد جسد حماتها المتصلب، لا يكون الماء مجرد وسيلة تنظيف، بل يتحوّل إلى رمز للتطهير، كأنه يغسل خطايا عمر كامل من القسوة، ويفتح للحظة نافذة للخلاص. في هذه اللحظة، تذوب حنّة قليلًا، تتوقف عن المقاومة، وتشعر بطيبة نهاد، بقلبها الذي لم يتلوث بالأحقاد، بإنسانيتها التي لم تكسرها الإهانات. إنه مشهد يحمل صمتًا يصرخ، حيث لا حاجة للكلمات، فالنظرات وحدها تحكي، واليد المرتجفة تعترف بما لم تستطع الشفاه أن تنطق به.
لكن جوليا قصّار لا تكتفي بإبراز هذين الوجهين، بل تصعد بالشخصية إلى ذروتها في المشهد الأخير، حين تقترب النهاية وتجد حنّة نفسها على فراش الموت، هشة، ضعيفة، مكسورة، لكنها، وللمرة الأولى، صادقة تمامًا. بصوت مرتجف، تطلب السماح. ليس اعتذارًا عابرًا، بل اعتراف متأخر، لحظة مواجهة مع الذات، استجداء لغفران تعلم جيدًا أنها لم تستحقه، لكن نهاد تمنحه لها رغم كل شيء. وهنا تتجلى عظمة أداء جوليا قصّار، حيث لا تُنطق الكلمات فقط، بل تُستخرج من أعماق الندم، من روح كانت تظن نفسها محصنة ضد الذنب، لكنها في لحظة الرحيل تدرك أن أقسى ما يمكن أن يواجهه الإنسان ليس الموت، بل أن يرحل دون مغفرة.
في نهاد الشامي، لا تكتفي جوليا قصّار بتقديم شخصية واحدة، بل تمنحنا ثلاثة وجوه متتابعة داخل جسد واحد: الصخرة الصلبة التي لا تنكسر، ثم الحجر المتشقق الذي ما زال يؤذي من حوله، وأخيرًا الروح الهشّة التي تتوسل الخلاص. هذه القدرة على التنقل بين أوجه القسوة والعجز والتوبة تجعل من أدائها درسًا في التمثيل العميق، حيث لا يكون التعبير حكرًا على الكلمات، بل ينساب من أدق تفاصيل الجسد، من ارتعاشة اليد، من الانكسار في النظرة، من الصمت الذي يحمل ثقل العمر كله.
جوليا قصّار ليست ممثلة تؤدي دورًا، بل فنانة تذوب في الشخصية حتى تتلبسها بالكامل، تتحرك فيها كما تتحرك الروح في الجسد، تعيش داخلها حتى آخر نفس. في هذا الدور، لم يكن التمثيل مجرد نقل للحوار أو رسم للانفعالات، بل كان خلقًا حقيقيًا لإنسانة من لحم ودم، امرأة قاسية، متعجرفة، محطّمة، ثم نادمة، حتى تتركنا معها أمام السؤال الأخير: هل القسوة لعنة لا فكاك منها، أم أن لمسة حب واحدة كفيلة بأن تذيب أقسى القلوب؟
الناقد السينمائي شربل الغاوي.






