جورج شلهوب : عبقري الأداء وصانع الروح الدرامية

0
24

في سماء الفن، تتناثر النجوم، بعضها يلمع لوهلة ثم يختفي، وبعضها يظل ساطعًا، لا يغيب، يبقى مشرقًا عبر العصور. تلك هي النجوم التي لا تُمحى آثارها من ذاكرة الزمن، التي تظل تضيء الطريق للأجيال القادمة، وتبقى معالمها محفورة في الذاكرة، عميقة وثابتة. جورج شلهوب، بكل ما تحمله هذه الكلمة من دلالات، ليس مجرد اسم مرّ على سطور الدراما، بل هو توقيعٌ لا يُمحى على صفحاتها. هو علامة فارقة، بصمةٌ مميزة لا تستطيع رياح التغيير أن تذروها أو تطويها، بل تظل شامخة، تقاوم تقلبات الزمن. حكايةٌ من الإبداع، نسجها هذا الفنان بخيوطٍ من الموهبة الفائقة، والاحتراف الراقي، والإنسانية العميقة.

ممثلٌ لا يجسّد الأدوار… بل يُنفخ فيها الروح

في كل عملٍ قدّمه، لم يكن جورج شلهوب مجرّد مؤدٍ لحوارٍ مكتوب، ولا مجرد جسدٍ يتحرّك بين أروقة المشاهد، بل كان النبض الذي يمنح الشخصية حياتها، والعمق الذي يحوّل الكلمات إلى مشاعر حيّة تنبض بيننا. حين يقف أمام الكاميرا، لا يمثل بل يتماهى مع الشخصية، لا يقرأ النص بل يعيشه، وكأنما خُلِق الدور له وحده، وكأن الشخصية التي نراها على الشاشة ليست حبراً على ورق، بل كيانٌ نابض، يتنفس، يحزن، يفرح، ويتغلغل في وجدان المشاهد.

من مسلسل فاميليا، حيث أجاد تجسيد دور الرجل صاحب النفوذ الذي وقع في حب سيدة تدافع بشراسة عن حقوق المرأة، إلى شخصية الرجل المتنفذ في العين بالعين، التي تأخذ طابعًا أكثر تعقيدًا، يظهر شلهوب ببراعة قدرته على التأثير العاطفي. وفي مسلسل نقطة انتهى، الذي يبتعد فيه عن طابع الشخصيات المتنفذة إلى شخصية الثري الذي يتخفى وراء قناع من الأعمال غير الشرعية، نجد أن جورج شلهوب يتمكن من تحويل كل دور إلى تجربة غنية بالعاطفة والعمق النفسي، مما يجعله ليس فقط فنانًا مؤثرًا بل مؤرخًا دراميًا للحالة الإنسانية في أعماله.

رؤيةٌ تتجاوز حدود التمثيل

الفن عند جورج شلهوب لم يكن مجرد مهنة يمارسها، بل كان رسالة يحملها. لم يكن مجرد ممثلٍ يقف أمام الكاميرا، بل صاحب رؤية تتجاوز الأداء إلى الإخراج والإنتاج، إلى الإبداع الذي لا تحدّه حدود. كان يدرك أن الدراما ليست ترفًا، ولا تسليةً عابرة، بل هي مرآةٌ تعكس الحقيقة، صوتٌ يحمل هموم الناس، وجسرٌ يعبر بهم إلى عمق المشاعر. في إخراجه، لم يكن صانع مشاهد فقط، بل مفسّرًا للأحاسيس، يلتقط اللحظة بصدقها، ويحوّل النص إلى لوحات درامية تتنفس الصدق.

في مسلسل نقطة انتهى، على سبيل المثال، استطاع أن يظهر الجانب المظلم للشخصية بطريقة تجعل الجمهور يتساءل عن الموازنة بين الخير والشر في حياة كل فرد. لقد أضاف لتلك الشخصية بعدًا إنسانيًا وعاطفيًا جعلها أكثر تعقيدًا وأكثر تفاعلًا مع جمهور متنوع. أظهرت تلك الأدوار التزامه برؤية تتجاوز الموهبة الفردية، بل ترتقي إلى صناعة قصة درامية تلامس تفاصيل الحياة الواقعية.

إنسانٌ قبل أن يكون فنانًا

في زمنٍ أصبح فيه الفن أضواءً زائفة وشهرةً مؤقتة، ظلّ جورج شلهوب ثابتًا على قيمه. لم يكن نجمًا يتلألأ خلف الأضواء، بل إنسانًا يسبق الفن بإنسانيته. لم يكن فنانًا معزولًا عن مجتمعه، بل كان قريبًا من الناس، يحاكي آلامهم في أعماله، ينقل نبض الشارع إلى الشاشة، ويجعل من الدراما صورةً حقيقيةً للحياة.

لم يكن الأداء عنده مجرد مهارةٍ يتقنها، بل كان مسؤولية يحملها على عاتقه، التزامًا بالصدق، واحترامًا للمشاهد، وإيمانًا بأن الفن إن لم يكن صادقًا، فلن يكون خالدًا. ولهذا، بقي اسمه مرادفًا للأعمال التي لا تموت، وللشخصيات التي تُحفر في ذاكرة المشاهد كأنها وجوه حقيقية مرّت في حياته يومًا.

إرثٌ يتحدّى الزمن

حين نستعيد أعمال جورج شلهوب، لا نراها مجرد مشاهد تُعرض، بل دروسًا في الأداء، دررًا دراميةً تتوهّج، شخصياتٍ لا تزال تنبض بالحياة رغم مرور الزمن. إرثه الفني لا يُقاس بعدد الأدوار التي قدّمها، بل بحجم الأثر الذي زرعه، وبالقلوب التي حرّكها، وبالمشاعر التي تركها حيّة في وجدان جمهوره.

في فاميليا، جسّد جورج شلهوب شخصية الرجل صاحب النفوذ الذي بدأ علاقة مع سيدة تكره صنف الرجال، فظهرت أبعاد الشخصيتين من خلال تفاعلهما، مما أدى إلى مشهد فني مليء بالصراع الداخلي والدرامي. وفي العين بالعين، قدّم شخصية معقدة لرجل متنفذ يحاول التأثير على مجريات حياة ابنته بطريقة دؤوبة، وهي صورة أخرى عن الصراع بين الإرادة الشخصية والقدرة على التأثير.

إرثه لا يُقاس فقط بما قدمه من أدوار، بل بما تركه من تجارب حية في مجال الفن اللبناني والعربي، فقد برهن أن الدراما، مثل الحياة، مليئة بالتفاصيل الصغيرة التي تكوّن عواطف بشرية عميقة، كان قادرًا على تجسيدها بكل صدق.

تحيةٌ لرجل أعطى الفن من روحه

لجورج شلهوب، الفنان الذي لم يكن يكتفي بأن يكون حاضرًا، بل كان مؤثّرًا، ملهِمًا، خالدًا في قلوب محبّيه… تحيةٌ لرجلٍ لم يكن التمثيل عنده مجرد وقوفٍ أمام الكاميرا، بل كان حالة عشقٍ للفن، ووفاءٌ لرسالته، وصدقٌ جعل من كل مشهدٍ بصمةً لا تمحوها الأيام.

تحية له، ولإبداعه، ولإرثه الذي سيظل حيًا مهما مر الزمن، حيث سيظل جورج شلهوب أحد أبرز وجوه الدراما العربية، الذي زرع فينا صورة حية عن الفن الذي يتجاوز الأدوار ليصل إلى أعماق الإنسان.

الناقد السينمائي شربل الغاوي.