يشكّل قانون السرية المصرفية في لبنان، الذي أُقرّ عام 1956، أحد أبرز القوانين التي لطالما اعتُبرت عنصرًا جاذبًا للاستثمار وركيزة في النظام المصرفي اللبناني. إلا أن التجربة اللبنانية، وخصوصًا بعد الانهيار المالي الكبير الذي بدأ عام 2019، أثبتت أن هذا القانون تحوّل مع الوقت من أداة لتعزيز الثقة إلى غطاء يُستخدم لحماية الفاسدين، ووسيلة للتهرب من الضرائب، ووسيلة لإفلات أصحاب النفوذ من أي محاسبة فعلية. من هنا بدأت ترتفع الأصوات المطالِبة بإلغاء هذا القانون أو تعديله بشكل جذري يواكب حاجات الشفافية والمحاسبة، لا سيّما في ظل مفاوضات لبنان مع المؤسسات الدولية.
في هذا السياق، عقدت اللجان النيابية المشتركة في مجلس النواب جلسة بتاريخ 16 نيسان 2025 لمناقشة اقتراحات التعديل على القانون رقم 306/2022، والذي كان قد نصّ على إمكانية رفع السرية المصرفية لأهداف التحقيق المالي والضريبي. وقد ركّزت النقاشات النيابية الأخيرة على نقطتين أساسيتين:
أولًا، تعديل مفعول الإلغاء الرجعي للسرية المصرفية: فقد عادت الحكومة إلى اعتماد عشر سنوات بدلًا من خمس، بدءًا من تاريخ القانون في 22/7/2022، ما يعني أن الأثر الرجعي يمتد حتى العام 2012. ورغم أن القانون الأساسي يُجيز الرجوع حتى العام 1988، فإن اختيار عشر سنوات فُهم على أنه حلّ توافقي “معقول” من الناحية السياسية والقانونية، على أن يُثبت جدواه عبر التطبيق الجدي والشفاف. غير أن هذه النقطة لا تزال موضع جدل، إذ تنقسم الكتل النيابية حولها بين من يطالب بتقليص المهلة إلى ثلاث سنوات، ومن يدعو إلى توسيعها حتى ثلاثين سنة، في محاولة لكشف أوسع نطاق ممكن من المخالفات والتجاوزات.
ثانياً، توضيح الجهات المخوّلة بطلب رفع السرية المصرفية: تم تأكيد أن الجهات التي يمكنها طلب رفع السرية المصرفية عبر مصرف لبنان تشمل هيئة التحقيق الخاصة، الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، إدارة الضرائب، لجنة الرقابة على المصارف، مصرف لبنان، القضاء، والمؤسسة الوطنية لضمان الودائع. ويُعدّ هذا التوضيح ضروريًا لحسم الالتباس الذي كان سائداً حول الجهة التي يحق لها طلب الكشف، كما أنه يمنع تقليص صلاحيات هذه الجهات من خلال مقاربات سياسية أو تقنية ملتوية.
لكن التطور الأهم الذي تضمنه مشروع القانون الوارد بالمرسوم رقم 103 تاريخ 2/4/2025 هو التعديل المقترح للمادة 7 (هـ) و(و) من قانون السرية المصرفية، والمادة 150 من قانون النقد والتسليف، إذ أصبح رفع السرية المصرفية “كاملًا وغير مقيّد” تجاه كل من مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف، في إطار أي عمل رقابي أو في سياق “أي دور آخر مناط بأي منهما”.
كما تنص التعديلات الجديدة على إمكانية رفع السرية أمام “أي طرف يتم تكليفه بمهام التدقيق أو الرقابة” ما يعني أن صلاحيات الوصول إلى المعلومات المصرفية أصبحت متاحة لمجموعة أوسع من الجهات، بما فيها مؤسسة ضمان الودائع، مما قد يسهم في تعزيز فعالية الرقابة ومنع التلاعب أو التواطؤ.
غير أن هذه التعديلات لم تمرّ من دون انتقادات، خصوصًا في ظل غياب ضوابط واضحة تحدّد نطاق هذه الصلاحيات أو آليات ممارستها، ما قد يفتح الباب أمام تفسيرات فضفاضة أو حتى استغلال سياسي في بعض الحالات. كما أن ربط رفع السرية في بعض الطروحات النيابية بعملية إعادة هيكلة القطاع المصرفي لا يزال يُثير القلق، لما يشكّله من تهديد فعلي لتعطيل القانون أو تأجيل تنفيذه بذريعة انتظار “الهيكلة” وهي عملية لا أحد يعلم متى تبدأ أو كيف ستنتهي.
في ضوء التعديلات المطروحة، يتبيّن أن المسار الإصلاحي الحقيقي يقتضي اعتماد رؤية واضحة تضع المصلحة العامة ومبدأ الشفافية فوق أي اعتبار سياسي أو مصرفي ضيّق. إن الإصرار على إبقاء الاستثناءات أو فرض قيود غير مبررة أمام الجهات الرقابية والقضائية يكرّس مناخ الإفلات من المحاسبة الذي أوصل البلاد إلى أزمتها المالية العميقة. الإصلاح الفعلي يبدأ بتعديل قانون السرية المصرفية بما يضمن رفعها عند الضرورة، دون قيد أو شرط، وبما يسمح لهيئات التحقيق والرقابة بممارسة مهامها بشكل مستقل وفعّال، في أي وقت وتجاه أي جهة مشتبه بها. وحده هذا المسار يعيد الثقة تدريجيًا بالنظام المالي اللبناني، ويمهّد الطريق لاستعادة الأموال المنهوبة، ويؤسس لمرحلة جديدة قوامها الشفافية والمحاسبة، لا الحماية والتمييع .






