صدور الجزء الثاني من كتاب “كميل شمعون: حريّة ومقاومة” للمهندس فارس ناصيف

0
254

صدر قبل أيام الجزء الثاني من كتاب “كميل شمعون: حريّة ومقاومة” للمهندس فارس ناصيف، عن “دار سائر المشرق”، ويتناول سيرة الرئيس الثاني للجمهورية بعد الاستقلال بين نهاية عهده الرئاسي سنة 1958 ووفاته سنة 1987، بعدما تطرّق الجزء الأول إلى مسيرته السياسيّة منذ ولادته وحتى أحداث ما عُرف باسم “ثورة 1958″. تستند هذه السيرة إلى ما صدر عن الرئيس شمعون من مؤلَّفات وما أفرجت عنه الدوائر الأميركية من وثائق سرّية عن تلك المرحلة، وبخاصة وزارة الخارجية و”وكالة الاستخبارات المركزية”.

يتناول الانتخابات النيابية سنة 1968 التي شكّلت مفصلًا سياسيًا مهمًّا في تاريخ لبنان الحديث، وشهدت بداية أفول المرحلة الشهابيّة.

تُعدّ الانتخابات التشريعية لعام 1968، من أهمّ الاستحقاقات في تاريخ لبنان، بحيث عبّر الشعب عن رأيه بكلّ صراحة. صحيح أنّ تلك الانتخابات أدّت إلى انقسام في الرأي عام، لكنّها عكست الواقع السياسي في البلاد، واتّخذت موقفًا حاسمًا برفضها المدّ الفلسطيني المسلّح في لبنان، وإدراكها خطورته، وأعطت اليمين اللبناني زخمًا قويًّا من التضامن والإعداد للأسوأ.

ونظرًا إلى أهميّة هذه الانتخابات، أوردت “وكالة الاستخبارات الأميركيّة – CIA” تقريرًا فصّلت فيه بدقّة عالية الوقائع على الساحة اللبنانيّة بعد انتخاب شارل حلو رئيسًا. تناول التقرير مواضيع أساسيّة وتطرّق إلى أهميّة الانتخابات اللبنانيّة المقبلة، والتركيز فيها على القضايا الأيديولوجيّة والسياسة الخارجيّة أكثر من الجهود الفرديّة المعتادة للمرشّحين.

كذلك، أورد التقرير تنامي المشاعر القوميّة العربيّة بين الأغلبية المسلمة بعد حرب حزيران 1967، ما عزّز آفاق الأغلبيّة البرلمانيّة الداعمة لسياسات الرئيس السابق فؤاد شهاب، المتحالِفة مع القوميّين العرب المتطرّفين.

ومن بين ما ذكره التقرير أيضًا، احتمال تصاعد أزمة طائفيّة بين المسلمين والمسيحيّين، مماثلة لأحداث 1958، بسبب معارضة الجماعات الموالية للغرب السياسات اليساريّة الاشتراكيّة الداخليّة والشهابيّين، في مقابل تصاعد تأثير القوميّين العرب المتشدّدين في السياسة اللبنانيّة نتيجة الضغط الإسلامي والنمو الراديكالي للقومية العربيّة. هذا إضافة إلى التطرّق إلى موضوع تراجع الدَّور الأميركي في لبنان منذ ذروته عام 1958، مع تدهور العلاقات الأميركيّة – اللبنانيّة بعد حرب 1967 بسبب الضغوط الشعبيّة والمَيل نحو الدّول العربيّة المتطرّفة.

تقرير الاستخبارات الأميركيّة “CIA” عن الانتخابات التشريعيّة سنة 1968

لبنان يواجه انتخابات حاسمة في الانتخابات اللبنانيّة المقبلة، وستكون قضايا الأيديولوجيّة والسياسة الخارجيّة أكثر أهميّة من الجهود العادية التي يبذلها المرشّحون. إنّ المشاعر القوميّة العربيّة القويّة التي تطوّرت لدى الأغلبيّة المسلمة منذ الحرب العربيّة – الإسرائيليّة في حزيران الماضي، تعزّز آفاق الأغلبية البرلمانيّة الحالية التي تدعم الرئيس السابق شهاب وسياسته المتمثّلة بالارتباط الوثيق بالقوميّين العرب المتطرّفين. وقد تتّحد جماعات المعارضة الأكثر محافَظَة والموالية للغرب، كردّ فعل على السياسات الاشتراكية الداخليّة للشهابيّين وتهدّد لبنان بأزمة طائفية إسلاميّة – مسيحيّة مماثِلة لتلك التي حدثت في عام 1958. وتتلقّى الصّراعات الأيديولوجيّة وصراعات السياسة الخارجيّة زخمًا إضافيًا من المصريّين.

للتدخّل السعودي في الانتخابات اللبنانيّة خلفيّة، وستُجرى الانتخابات البرلمانيّة في ثلاثة أيام أحد متتالية في أواخر آذار وأوائل نيسان. في العادة، لا تكون الانتخابات اللبنانيّة بمثابة منافسة على الأيديولوجيّات أو القضايا، بل على المكانة الشخصيّة للأعيان، أو الزعماء، الذين يجعلهم وضعهم الاجتماعي أو المالي قادة في مناطقهم المحلية. ويتمّ انتخاب الزعماء بشكلٍ منفصلٍ من قبل الطوائف الدينيّة المختلفة، والتي يتمّ تخصيص نسبة مئويّة من المقاعد البرلمانيّة لها مساوية لنسبتها النظريّة من سكّان لبنان. تنضمّ أعداد من الطوائف المختلفة معًا في قوائم انتخابيّة في محاولة لتشكيل أغلبيّة في البرلمان. والهدف من مثل هذه التحالفات هو عادةً جني غنائم المنصب، وليس الترويج لأيديولوجيّة أو سياسة معيّنة. ومع ذلك، فإنّ الانتخابات المقبلة ستكون لها أهميّة أيديولوجيّة أكبر من المعتاد في الانتخابات اللبنانيّة، وستكون قضايا السياسة الخارجيّة ذات أهميّة كبيرة في الحملة الانتخابيّة.

حاولت حكومة الرئيس حلو المعتدِلة مواكبة الرأي العام العربي، من دون الوقوع في نزاعات بين المتطرّفين والمحافظين. وقد لعبت الولايات المتّحدة الدَّور الأكثر أهميّة في لبنان خلال العقد الماضي أو نحو ذلك، على الرغم من تراجع نفوذها بشكلٍ حاد. لقد بلغ النفوذ الأميركي ذروته في عام 1958، عندما طبّقت حكومة شمعون مبدأ أيزنهاور وتمّ إنزال القوات العسكريّة الأميركيّة على الشاطئ في لبنان.

ولكن خلال الحرب العربيّة – الإسرائيلية في حزيران 1967، تدهورت العلاقات الأميركيّة – اللبنانيّة بسرعة، وطالبت الحكومة الولايات المتحدة باستدعاء سفيرها وخفض مستوى تمثيلها إلى المستوى الرسمي. وعلى الرغم من أنّ المسؤولين الحكوميّين كانوا لا يزالون مؤيّدين شخصيًا لأميركا، إلّا أنّ العلاقات الرسمية ظلّت على مستوى منخفض بسبب ضغوط الرأي العام اللبناني.

تعود علاقة لبنان المتزايدة مع الدّول العربيّة المتطرّفة، وعلاقاته الباردة مع الولايات المتحدة – جزئيًّا – إلى القوّة السياسية المتنامية للمجتمع الإسلامي. وينقسم سكان لبنان بالتساوي تقريبًا بين المسيحيّين والمسلمين من مختلف الطوائف. في معظم فترات الماضي، أذعن المسلمون للهَيمنة المسيحيّة على الحكومة بشرط اتّباع سياسة خارجيّة مؤيّدة للعرب بشكل أساسي. ومع ذلك، يشكّل المسلمون الآن أغلبية السكان، وقد بدأوا يطالبون بالتماهي الوثيق مع جيران لبنان العرب. وهذا الضغط، الذي يغذّيه إلى حدّ ما نموّ القوميّة العربيّة الراديكالية في مصر وسوريا، قد تزايد بشكلٍ كبير خلال العقد الماضي. وعلى الرغم من أنّ المسلمين في الوقت الحاضر لا يُصرّون على الدمج الفوري للبنان في دولة عربية كبرى، إلّا أنهم لن يسمحوا بعودة لبنان إلى الموقف الموالي للغرب. وفي سياق هذه الأهميّة المتزايدة للمتشدّدين المؤيّدين للعرب، ستقوم المجموعات السياسية الرئيسيّة بحملاتها في الانتخابات المقبلة.

إنّ التجمّعات السياسيّة الأكثر أهميّة هي الجبهة البرلمانيّة الديمقراطيّة، التي تُهيمن على البرلمان بـ 56 مقعدًا من أصل 99 مقعدًا. فإذا لم تشكّل الجماعات غير الشهابيّة جبهة موحّدة، فإنّ الاحتمالات جيّدة بأن يحافظ الشهابيون على قوّتهم الحالية في البرلمان الجديد.

نتائج انتخابات 1968

لقد فصّل تقرير الاستخبارات الأميركية وقائع عن المسارَين السياسيّ والطائفيّ اللذَين يديران البلد، ولكنّه لم يصب تمامًا في توقعاته لنتائج الانتخابات النيابية، فقد حصل مرشّحو “الحلف الثلاثي” على 30 مقعدًا من أصل 99، أيّ ما يقارب ثلث مقاعد المجلس.

(…) في 19 تشرين الأوّل من عام 1968، قدّم الرئيس شارل حلو استقالته، وذلك بعد الانتخابات النيابية التي أحرز فيها “الحلف الثلاثي” نتائج متقدّمة في مواجهة لوائح “النهج الشهابي”، فثارت ثائرة “النهج” ضد الرئيس حلو وأعلن شهاب عن قطع أي علاقة له مع الدّولة. كذلك شعر الرئيس حلو بحمل ثقيل في مرحلة كان يترسّخ فيها الانقسام الداخلي حول العمل الفلسطيني المسلّح، ويزداد فيها ضغط ضبّاط “الشعبة الثانية” على العهد. وممّا قاله الرئيس شارل حلو عن استقالته:

“في صيف 1968، راودتني فكرة الاستقالة. بدا لي بدايةً أنني نجحت فعلًا في إعادة النظام الديمقراطي، بفضل احترام الحريّات. ومن جهةٍ ثانية، أخذت المشاكل التي تواجهني، وبخاصة مشكلة الفدائيّين، تزداد تعقيدًا. وأخيرًا باتت العدائية غير المبرّرة من فؤاد شهاب، من افتراءات المقرّبين منه ومناصريه المرهِقة تثقل كاهلي، وتُعقِّد ممارستي لمهامي. لم يكن لهذا العداء سبب في رأيي، سوى حرصي على حماية حقوق الناس، وبشكل خاص أثناء الحملة الانتخابيّة”.

على أثر انتشار خبر الاستقالة، تهافت النواب والصحافيّون إلى القصر الجمهوري في سن الفيل مبدين حرصهم على إبقاء الرئيس في منصبه إذ لا جدوى من استقالته، فعاد عنها، خصوصًا بعد أن لفت نظره الرئيس شمعون إلى صعوبة إجراء انتخابات رئاسيّة صحيحة في ظروف كهذه، وأنّ النظام السياسي سيصاب من جرّاء ذلك بهزّة خطيرة.

عاد الرئيس حلو عن استقالته ليكمل عهده بأقلّ قدر من الخسائر مؤجِّلًا الانفجار الكبير. وفي 20 تشرين الأوّل 1968، شكّل الرئيس حلو وزارة رباعيّة برئاسة الرئيس عبدالله اليافي. ولم يمضِ على تأليف الوزارة سوى بضعة أيّام، حتى نشبت معركة دامية بين وحدة من الجيش وبعض المسلّحين الفلسطينيين في قرية حلتا الجنوبية، قُتل فيها فلسطينيّ وجُرح آخر.

طلب الرئيسان شمعون وحلو الدعم الأميركي بالسلاح

تفاقمت الأوضاع الأمنيّة بشكل دمويّ، ومنذ شهر كانون الثاني من عام 1969، سعى الرئيس حلو إلى أن يُظهر للأميركيين خطر انتقال لبنان إلى ساحة مواجهة تُحرّكها سوريا وبعض الدول العربية بدعم من الاتّحاد السوفياتي. ففي 10 كانون الثاني 1969، ناقش الرئيس حلو مع السفير الأميركي في لبنان دوايت بورتر إمكانيّة الحدّ من العدوان الإسرائيلي على لبنان تحت ذريعة وجود فدائيّين فيه (1).

ومع مرور الوقت، ازدادت مطالبات الرئيس حلو بالتدخّل العسكري الفاعل لإنقاذ لبنان. وكان يوجّه هذه المطالب مباشرة إلى بورتر، وإلى زوّاره من أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي وغيرهم، كما كان يرسل رسائل عاجلة إلى واشنطن بهذا الخصوص. وفي السياق عينه، كان القادة المسيحيون – وعلى رأسهم الرئيس كميل شمعون – يطلبون من السفير الأميركي تزويدهم بالسلاح. وفي 23 حزيران، عُقد اجتماع بين الرئيس شمعون وبورتر، وقد صدر تقرير بشأنه في 3 تموز حمل عنوان “شمعون يدعم حلو”، أظهر تطابق وجهات النظر بين الرئيسَين. ومع ذلك، فإن جهود الرئيس شمعون لتأمين تسليح المسيحيين باءت بالفشل.