استحقاقٌ تلو الآخر، ومصاعبُ تتراكم في وجه الدولة اللبنانية، أمنيّة واقتصاديّة وسياسيّة. فمنذ الحرب الأخيرة والاعتداءات الإسرائيلية المستمرة، يرزح لبنان تحت وطأة التهديدات الأمنية، في حين لم يتعافَ بعد من الانهيار الاقتصادي الذي بدأ في العام 2019. أما سياسيًا، فتتقاذف القوى السياسية كرة النار، وتغيب التفاهمات حول الملفات الحسّاسة، من التفاوض مع العدو، إلى مسألة السلاح، وصولًا إلى قانون الانتخابات الذي فجّر نزاعًا محتدمًا بين “القوات اللبنانية” مدعومةً من “الكتائب” و”قوى التغيير”، من جهة، والرئيس نبيه بري ممثلًا “الثنائي أمل – حزب الله” من جهة أخرى.
نزاعٌ يسعى كلٌّ من رئيس الجمهورية جوزاف عون ورئيس الحكومة نواف سلام إلى منعِه من أن يُطيح بالانتخابات النيابية الأولى في عهدهما، إذ إنّ ذلك لا ينسجم مع خطاب القسم لعون، ولا مع البيان الوزاري لحكومة سلام.
وفي خضمّ هذه التجاذبات، برزت أزمة المغتربين والدائرة السادسة عشرة لتتصدّر المشهد. غير أنّ المجلس النيابي فشل في التوصّل إلى تسوية نهائية، وهذا ما أدّى إلى تعطيل التشريع في الجلستين الأخيرتين، بعد امتناع عدد من النواب عن الحضور، احتجاجًا على عدم إدراج رئيس المجلس نبيه بري مشروع القانون المكرر على جدول الأعمال.
وهكذا، انتقلت كرة النار إلى الحكومة، وبين اقتراحي وزير الخارجية يوسف رجي ووزير الداخلية أحمد الحجار، شُكّلت لجنة وزارية برئاسة نائب رئيس الحكومة طارق متري، في محاولة للوصول إلى رؤية مشتركة قد تُخفّف من حدّة الاحتقان الذي تمدّد من مقاعد البرلمان إلى أروقة مجلس الوزراء.
فهل تنجح اللجنة الوزارية في حلّ ما عجز عنه البرلمان؟ وماذا لو رفض الرئيس بري إدراج مشروع القانون الذي قد تحيله الحكومة إلى المجلس النيابي؟ أهناك من يسعى فعلًا إلى تطيير الانتخابات النيابية وإفشال إجرائها في أيار المقبل؟
تمرير الجلسة الحكومية وسط تهديدات وانقسامات
نجح الرئيسان جوزاف عون ونواف سلام في تمرير الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء، بعد تهديد وزراء “القوات اللبنانية” بالانسحاب في حال لم يُحوَّل مشروع قانون الانتخاب إلى البرلمان. وبعد نقاشات حادة، أُجّلَ بندَا الوزيرين يوسف رجي وأحمد الحجار إلى نهاية الجلسة، لتُشكَّل لاحقًا لجنة وزارية برئاسة نائب رئيس الحكومة طارق متري تتولّى دراسة المشروعين. فقد قدّم رجي مشروعًا يقضي بشطب المادتين 112 و122 من قانون الانتخاب، بما يسمح للمغتربين بالاقتراع في أماكن إقامتهم استنادًا إلى قيودهم في لوائح الشطب، لاختيار النواب الـ128 كافة. في المقابل، طرح الوزير الحجار مشروعًا يهدف إلى إلغاء البطاقة الممغنطة، في محاولة للوصول إلى حلول تُطرح للتصويت في الجلسة الحكومية المقبلة، والتي سيُشكّل قانون الانتخاب عنوانها الأبرز، إلى جانب تقرير قيادة الجيش الثاني حول تقدّم خطتها إذا ما أُدرج على جدول الأعمال.
ضغوط لاحتواء الأزمة داخل الحكومة
تشير معلومات “المدن” إلى أنّ الرئيسين عون وسلام يبذلان جهودًا كبيرة لتفادي نقل الصراع إلى داخل الحكومة وتحميلها ما لا يمكن التوافق عليه. لذلك، تسعى اللجنة الوزارية إلى صياغة حلٍّ توافقي يُرضي الطرفين ويُحال لاحقًا إلى البرلمان.
إلا أنّ المعطيات المتوفّرة تفيد بصعوبة التوصل إلى اتفاق، في ظل تشبّث كل فريق بموقفه. فـَ “الثنائي الشيعي” يتمسّك بتطبيق الدائرة السادسة عشرة كما نصّ عليها القانون النافذ، أو باقتراع المغتربين داخل لبنان فقط، رافضًا العودة إلى تجربة التصويت من الخارج التي جرت عام 2022. في المقابل، تصرّ “القوات اللبنانية” ومعها “الكتائب” و“قوى التغيير” على إلغاء الدائرة السادسة عشرة بالكامل.
ومن المنتظر أن ترفع اللجنة بعد مداولاتها توصياتٍ إلى الحكومة، ليُصار إلى دمج المشروعين والتصويت عليهما، قبل إعادة الملف إلى البرلمان مجددًا، الذي سيجد نفسه مرة أخرى أمام المسؤولية الكاملة في حسم المسألة.
اللجنة الوزارية تواجه معضلة التنفيذ
وفق المعلومات التي حصلت عليها “المدن”، تتجه اللجنة الوزارية في خلاصتها إلى اعتبار أن تطبيق القانون الانتخابي بصيغته الحالية، الذي يحصر اقتراع المغتربين بستة مقاعد مخصّصة لهم في الخارج، غير ممكن من الناحية التنفيذية والإجرائية. ومن المتوقع أن ترفع اللجنة توصية إلى المجلس النيابي لمعالجة الإشكال وفق الأصول الدستورية، وهو ما يعني أن الحكومة ستعيد عمليًا إلقاء كرة النار في ملعب البرلمان ليقرّر مصير هذا الملف الشائك.
صلاحيات بري في مواجهة الاعتراضات
تدرك كتل “القوات اللبنانية” و“الكتائب” و“قوى التغيير” أن لا سلطة تُجبر الرئيس نبيه بري على إدراج مشروع القانون المحال من الحكومة على جدول الأعمال. وبالتالي، قد يبقى هذا الملف مجمّدًا حتى انتهاء المهلة المحددة لتسجيل المغتربين.
وفي هذا السياق، تؤكد مصادر “الثنائي الشيعي” لـِ “المدن” أن ما يقوم به الرئيس بري قانوني تمامًا ويدخل في صلب صلاحياته. فكما أنّ لرئيس الجمهورية صلاحية توقيع مرسوم تشكيل الحكومة، ولرئيس الحكومة تحديد جدول أعمال مجلس الوزراء، كذلك يحقّ لرئيس مجلس النواب تحديد جدول أعمال الجلسات التشريعية.
وتصف المصادر ما يجري بأنه انقلاب على التفاهمات الانتخابية السابقة، ومحاولة لاستغلال الظروف المستجدة بعد الحرب الأخيرة، خصوصًا أن العديد من المغتربين الذين ينوون التصويت للثنائي يواجهون صعوبات في ذلك خشية خسارة أعمالهم.
وتضيف المصادر بلهجة حازمة: “ما بتمشي الأمور عخاطرهن. فيه قانون نافذ، يتفضلوا يتجهزوا للانتخابات على أساسه. ما فينا نرجع نفتح باب تعديل القانون كل مرة ليناسب مصلحتن.”
كما شددت على أن المساس بصلاحيات رئيس المجلس خط أحمر، معتبرة أن تعطيل التشريع يضرّ بالبلد لا بالرئيس بري. وتختم بالقول: “إما السير بالدائرة السادسة عشرة كما أُقرّت، أو أن من يريد التصويت من المغتربين فعليه القدوم إلى لبنان. لا بديل من ذلك، وعلى الحكومة أن تتحمّل مسؤولياتها في تأمين العملية الانتخابية”.
معارضة حتى النهاية… وهاجس التأجيل
في المقابل، يبدو أن القوات اللبنانية وحلفاءها ماضون في معارضتهم حتى النهاية، بالرغم من إدراكهم صعوبة تحقيق مطلبهم. وهم يدركون أيضًا أن البديل قد يكون تأجيل الانتخابات النيابية، وهو خيار مرفوض من معظم القوى السياسية.
ومع ذلك، بدأت بعض الأصوات تهمس داخل الأوساط السياسية عن رغبة قواتية ضمنية بالتأجيل، بحيث يتمكّن المجلس النيابي المقبل من انتخاب رئيس الجمهورية. فحتى لو أُجريت الانتخابات في موعدها، فإن المجلس المنتخب لن يتمكن من انتخاب الرئيس المقبل الذي تنتهي ولايته مطلع عام 2031، في حين تكون ولاية المجلس قد انتهت قبل ذلك. غير أنّ هذه الأحاديث تبقى في إطار التخمينات والاتهامات المتبادلة.
المشهد النيابي… ثبات في التوازنات
تشير الإحصاءات إلى أنّ تركيبة البرلمان لن تتبدّل كثيرًا بعد الانتخابات المقبلة؛ إذ يُتوقّع أن يحتفظ نحو 94 نائبًا بمقاعدهم، في حين ينحصر التنافس على 34 مقعدًا فقط بين النواب السنّة ونواب قوى التغيير. ومع ذلك، تسعى “القوات اللبنانية” وحلفاؤها إلى تحقيق خرق داخل البيئة الشيعية، حتى ولو كان ذلك على حساب خسارة مقعد أو مقعدين مارونيين.
اختبار اللجنة الوزارية… والنار في ملعب البرلمان
تقف اللجنة الوزارية برئاسة طارق متري أمام امتحان مصيري، جوهره قدرة الحكومة على إعادة كرة النار إلى البرلمان، والحفاظ على التوازن السياسي من دون جرّ الصراع إلى مجلس الوزراء. فالمشكلة تشريعية بحتة، والحكومة في غنىً عن أي توتر إضافي، خصوصًا في ظل الأزمات المتراكمة التي تواجهها.
ومن الواضح أن الحكومة تُدرك هذه الحقيقة، وإن لم تُصرّح بها علنًا. فبعد أن تُنهي اللجنة عملها وتُعرض اقتراحاتها، ويُطرح مشروع القانون للتصويت داخل الحكومة، ستبقى الكلمة الفصل عند الرئيس نبيه بري، الذي لا يمكن إلزامه قانونيًا بإدراج المشروع على جدول الأعمال.
ويبقى السؤال مفتوحًا: هل ستُجرى الانتخابات في موعدها، أم تُطيّر بفعل الخلافات السياسية؟ وهل ينتظر لبنان متغيرات إقليمية ودولية جديدة لترسم ملامح المرحلة المقبلة؟






