قبل بضعة أيام من وصول البابا لاوون الرابع عشر إلى لبنان، كانت كلّ التقديرات تشير إلى أنّ حربًا إسرائيلية وشيكة ضد “حزب الله” قد تندلع. وما عزّز هذا الاتجاه، التصريحات الإسرائيلية المتكرّرة، التي أعلنت تصميمها على خوض حرب تُضعف “الحزب” “المتعافي”، إضافة إلى المناورات العسكرية على الجبهة الشمالية الإسرائيلية، التي أكدت أنّ التهديدات جدّية، وهذا ما أثار قلق المسؤولين اللبنانيين، ودفعهم إلى التحرك بسرعة لتفادي انهيار الوضع.
وتشير المعطيات المتوافرة من مصادر دبلوماسية لبنانية فاعلة في واشنطن، إلى أنّ العامل المساعد الذي منح الوقت لرئيسَي الجمهورية والحكومة للبدء باتصالات عاجلة، كان زيارة البابا. ومن جهة أخرى، نشطت اتصالات الرئيس جوزاف عون مع الدول العربية المعنية بالوضع اللبناني، ولا سيما السعودية ومصر وقطر، التي مارست أقصى ما يمكن من ضغط لمنع أي تدهور دراماتيكي، في حين لعب السفير الأميركي اللبناني الأصل ميشال عيسى دورًا كبيرًا في دفع الرئيس عون إلى الإقدام على خطوة جريئة تنزع فتيل الانفجار.
وتلفت المصادر إلى أنّ عون نسّق بشكل كثيف مع رئيسي الحكومة نواف سلام والمجلس نبيه بري، الذي كان في صلب التداول باسم سيمون كرم ليكون المفاوض الرئيسي “المدني” في إطار لجنة الميكانيزم.
وقد أبدى السفير عيسى ارتياحه لاقتراح تكليف كرم هذه المهمة، وتمّ إرسال الاسم إلى الإدارة الأميركية، وفق المصادر الدبلوماسية، حيث تلقّفه فريق المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف بإيجابية كبيرة. ثم أُرسلت الموفدة الدبلوماسية مورغان أورتاغوس إلى إسرائيل، حيث خاضت مفاوضات دقيقة مع تل أبيب لنيل موافقتها على البدء بالتفاوض مع ممثّل مدني للحكومة اللبنانية. ونقلت رغبة جدية لدى الرئيس الأميركي دونالد ترامب بقبول إسرائيل بالتهدئة والاحتكام إلى التفاوض، لأنّ أولوياته في هذه المرحلة هي السلام في المنطقة وتفادي أي انفجار إقليمي كبير يعرقل مشروعه، معتبرًا أنّ قبول لبنان بالتفاوض عبر مندوب مدني يُسهّل التقدّم نحو مشروع التطبيع، وربما معاهدة سلام.
وترى المصادر الدبلوماسية أنّ إسرائيل ستحاول دفع المفاوضات نحو مكان آخر، بالتنسيق مع واشنطن، لفتح الباب أمام تسوية أوسع قد ترتبط لاحقًا باتفاقيات أبراهام. ويُترجم هذا الاتجاه بتكليف نتنياهو معاونه الدبلوماسي أوري ريسنيك تمثيل إسرائيل في المفاوضات، في خطوة تعبّر عن رغبة في إرساء تعاون اقتصادي مع لبنان. ولهذا، تبدو لعبة المفاوضات ملغّمة بمطالب إسرائيلية تبدأ بفرض ضمانات أمنية، تشمل على الأرجح آليات مراقبة داخل لبنان، وإجراءات تدقيق في هوية من يدخل القرى الحدودية، مرورًا بنزع سلاح “الحزب” في كلّ المناطق اللبنانية، وصولًا إلى الجوانب الاقتصادية التي تُعيد إلى الأذهان اقتراحًا طرحه المبعوث الأميركي السابق توم باراك بإنشاء منطقة اقتصادية جنوبية تُحفّز السكان على التخلي عن “الحزب”، وربما إعادة النظر في ترسيم الحدود البحرية والتنقيب عن النفط.
ولا تستبعد المصادر الدبلوماسية في واشنطن أن تكون كلّ هذه الألغام في مواجهة السفير كرم. بل كشفت عن نوايا إسرائيلية بأن تتزامن المفاوضات مع توترات عسكرية وأمنية، وعمليات تصعيد تقوم بها إسرائيل للضغط على الجانب اللبناني، والاستمرار في إضعاف “الحزب”. وهذا ما عبّر عنه السفير عيسى حين قال إنّ إسرائيل تفرّق بين المفاوضات مع الحكومة اللبنانية وحربها ضد “الحزب”. وتؤكد المصادر أنّ الجانبين الإسرائيلي والأميركي لن يمنحا لبنان وقتًا طويلًا في المفاوضات، بل ستكون وتيرتها سريعة ولن تتجاوز الأسابيع. فإذا لمسا ترددًا أو ميوعة في تعاطي الدولة اللبنانية، أو عدم قدرة الجيش على حسم ملف السلاح، ستعود الخيارات العسكرية إلى الطاولة ابتداءً من كانون الثاني المقبل.
في المقابل، تتجه الأنظار إلى بري، ممثل الثنائي الحزبي الشيعي في السلطة. وتعتبر المصادر أنّ بري كان مرنًا في قبول تعيين كرم رئيسًا للجنة التفاوض لأسباب عدة: أولًا، ينتمي كرم إلى بيئة جنوبية جزينية ذات خلفية شهابية، وله علاقات طويلة الأمد مع شخصيات في المجتمع الشيعي، حتى وإن كانت علاقاته بـ”الحزب” غير متينة. وهذا يمنحه القدرة على العمل مع بري عند الضرورة. ثانيًا، أصبحت البيئة الشيعية مستنزفة وغير قادرة على تحمل حرب جديدة، وبري يُدرك المخاطر الوجودية التي تهدد طائفته. ولذلك أرسل مؤخرًا معاونه السياسي علي حسن الخليل إلى إيران لشرح حجم المخاطر التي يواجهها الشيعة. كما يُقال إنّ السيد علي السيستاني نفسه وجّه رسالة غير مسبوقة للإيرانيين، محذّرًا من ضرورة “حماية” الشيعة في لبنان وعدم المبالغة في المغامرة.
وتخلص المصادر إلى أنّ الولايات المتحدة نجحت في فرض هدنة سياسية – تفاوضية أوقفت الانزلاق إلى حرب شاملة. غير أنّ هذه الهدنة موقتة ومعلّقة على نتائج الاجتماعات المقبلة للجنة الميكانيزم. ففي اللحظة التي يشعر فيها الإسرائيليون بأنّ لبنان يرفض ما يعدّونه “مطالب أساسية”، قد يلجأون إلى التصعيد.
وعليه، يُمكن الاستنتاج بأن تعيين سيمون كرم أوقف الحرب… لكنه لم يُلغِها. وواشنطن نجحت في إدارة الأزمة… لا في حلّها، و”الميكانيزم” باتت المسرح الذي سيتحدد عليه مستقبل لبنان القريب.
لا بدّ من الاعتراف بأنّ المرحلة المقبلة حساسة وتاريخية، وقد تكون فرصة نادرة لتثبيت الاستقرار… أو منعطفًا يدخل فيه لبنان فصلًا جديدًا من المواجهة.






