كتب جهاد اسماعيل في “الأخبار”:
عَهد اركان المؤسسات الدستورية في لبنان التطبيع مع التمديد والشغور جرّاء التعامل مع القاعدة الحقوقية انطلاقًا من المصلحة السياسية المعتبرة، إلى أن تصدّرت، اليوم، اشكالية سدّ الشغور في موقع رئاسة الجمهورية، ولو من خلال انتخاب قائد للجيش خلافًا للفقرتين الثانية والثالثة من المادة ٤٩ من الدستور، تارةً بدعوى امكانية تعديل الدستور، وأخرى بحجّة اعادة سيناريو الانتخابات الرئاسية عام ٢٠٠٨ من دون تعديل دستوري سندًا لدراسة أعدّها بهيج طبارة حينذاك. فما هو الموقف الدستوري من هذه الاشكاليات؟
اولا: تنصّ الفقرة الثانية من المادة ٤٩ من الدستور «لا يجوز انتخاب احد لرئاسة الجمهورية ما لم يكن حائزًا على الشروط الّتي تؤهله للنيابة وغير المانعة لأهلية الترشيح»، مما يعني أنه يجب العودة إلى قانون الانتخاب، ومن بينه الشروط غير المانعة لأهلية الترشيح، لمعرفة الأحكام العامة، حيث نجدها في المادة ٨ من القانون الجديد بنصّها في ع«دم جواز انتخاب رجال الجندية سواء كانوا في الجيش او من قوى الأمن الداخلي ما لم يتقدموا باستقالاتهم قبل تاريخ الانتخاب بستة أشهر»، وهو نصٌ يمنع، في اطلاقيته، كلّ عسكري من الترشّح لرئاسة الجمهورية.
ثانياً: تنصّ الفقرة الثالثة من المادة ٤٩ من الدستور على أنه «لا يجوز انتخاب القضاة وموظفي الفئة الاولى، وما يعادلها في جميع الادارات العامة والمؤسسات العامة… مدة قيامهم بوظيفتهم وخلال السنتين اللتين تليان تاريخ استقالتهم ». وهذا المنع جاء لحظر استغلال الموقع الوظيفي لغايات انتخابية، وهو، في أيّ حال، ينطبق على موقع قيادة الجيش، أيّ يمكن ان يسري على الموظفين المدنيين والعسكريين في آنٍ معاً، بدليل أن النصّ عندما حرّم انتخاب موظفي الفئة الأولى عاد وقال في السياق نفسه بتحريم انتخاب ما يعادل موظفي الفئة الأولى في الادارات العامة والمؤسسات العامة، اعتقاداً منه أن التحريم يطال كلّ المواقع الوظيفية الّتي يمكن ان تُسخّر لغايات فئوية.
ثالثاً: إن عقد المجلس النيابي عزمه على انتخاب قائد الجيش رئيسا للجمهورية يعني أنه غير قادر، دستوريًا، على إجراء هذه المهمة من دون معالجة العائق الوارد في المادة ٤٩ من الدستور، مما يعني أن اعادة سيناريو الانتخابات الرئاسية عام ٢٠٠٨ لا يمكن تصوّره من الناحية الدستورية، للأسباب الآتية:
– لا يمكن سقوط المهل الواردة في المادة ٤٩، ذلك أن سقوطها يفترض أن النظام الداخلي للمجلس النيابي، عطفًا على الدستور، كان قد أشار الى آلية الترشّح للانتخابات الرئاسية، الا ان الدستور قد أزال، مسبقًا، أيّة آلية تعيق انتظام الانتخاب فور وقوع الشغور، وبالتالي يصبح تطبيق القيود الدستورية واجب التحقق، من دون أيّ تحفظ كما هو الحال في الانتخابات النيابية الفرعية الّتي تُسقط في ظلها بعض الشروط المفروضة في الانتخابات العامة كفرضية من المشرّع على حصول الشغور بصورة طارئة على الولاية العامة..
– تنصّ المادة 74 من الدستور على أنه «إذا خلت سدة الرئاسة بسبب وفاة الرئيس او استقالته أو سبب آخر فلأجل انتخاب الخلف يجتمع المجلس فوراً بحكم القانون». ويُستشفّ من هذا النص بأنه حدّد الطبيعة الحكمية والفورية للمجلس عند خلوّ سدة الرئاسة. الا أن تفسير هذه المادة لا يتوقف عند حدود معانيها ودلالاتها، بل يستلزم، بالضرورة، العودة الى تجربة الجمهورية الثالثة، كمصدر مباشر ولازم للدستور اللبناني، وذلك عندما نصّت المادة ٤ من القانون الدستوري الفرنسي الصادر في 1875 على أن «كلّ الجلسات التي يعقدها مجلس الشيوخ أو مجلس النواب خارج دورات الانعقاد غير شرعية باستثناء الاجتماع الفوري من أجل انتخاب رئيس الجمهورية»، الأمر الذي يعني بأن الجلسات النيابية الحكمية أو الفورية، في لحاظ المادة 4، تُعقد ولو كان البرلمان خارج دورات الانعقاد، وهو ما قصدته المادة 74 عندما أجازت الاجتماع الفوري، أيّ الالتئام من دون مراعاة قيد أدوار الانعقاد الوارد في المادة ٣٢ من الدستور، وليس الإلتئام من دون مراعاة أحكام المادة ٤٩.
– بمعزل عن التفسير التاريخي للمادة ٧٤، فإنّها تعبر عن حالة طارئة نتجت عن قوة قاهرة لا عن إرادة المجلس، في حين أن الشغور الرئاسي، لفترة تفوق مدة سنتين، كان بفعل تقاعس المجلس عن ممارسة العملية الانتخابية، وبالتالي إن كان ممكنا القول بأنه في مقدور المجلس انتخاب أشخاص خلافاً للمادة ٤٩ بذريعة ما قالت به المادة ٧٤ من الدستور، فيعني ذلك، مستقبلا، امكانية جواز تعطيل المجلس النيابي للوظيفة الانتخابية لإزاحة الفقرتين الأولى والثانية من المادة ٤٩ من الدستور بمجرد امتناعه عن دوره الانتخابي، بينما من الثابت أن الدستور اللبناني لم ينصّ على أحكامٍ تعطّل مواده جزئيا او كليا ولو بصورة مشروعة على غرار الدستور الفرنسي او المكسيكي او التشيكي، علاوةً على أن التعطيل غير المشروع للدساتير – الذي يتحقق في اهمال بعض القواعد الدستورية او مخالفتها بصورة اعتباطية – نظرية لم يقبل بها أي فقه دستوري، وهي، بالتالي، من خارج تصورّ ايّ دستور ديمقراطي مقارن.
اعادة سيناريو الانتخابات الرئاسية عام ٢٠٠٨ لتجاوز المادة ٤٩ من الدستور لانتخاب قائد الجيش لا يمكن تصوّره من الناحية الدستورية لأسباب عدة
– تطبيق هذه العملية الانتخابية من دون تعديل دستوري، عام ٢٠٠٨، لا يعني أنه يشكل عرفًا كما يزعم البعض، لأن الفعل الواحد يعتبر سابقة لا عرفًا ما لم يتكرر، عدا أن القوة الحقوقية للعرف المعدل، أي العرف المخالف لنص دستوري، غير ثابتة وانما منقوصة لدى الفقه الدستوري، لأنه من غير الجائز تشكيل حالة دستورية بحكم ممارسة فعل واحد ما دام الدستور كان قد أشار إلى طرق محددة في تعديل الدستور أو في مخالفة محتواه، وإلا فقدت النصوص مبرراتها وأهميتها، كما أنه ليس دقيقاً القول بأن ما تقبله الهيئة الحاكمة قد يشكّل حالة قانونية، ذلك أن القانون، على اختلاف مراتبه، هو تعبير عن ما يجب أن يكون لا ما هو كائن.
رابعا: يستشفّ مما سبق، ان انتخاب قائد الجيش، في جلسة ٩ كانون الثاني، رئيسا للجمهورية يفترض تعديلا للمادة ٤٩ من الدستور، لكن هذا التعديل محكوم بقيود ومنها:
– أن لا يمارس المجلس النيابي هذه المهمة فور التئامه كهيئة ناخبة، لكون المادة ٧٥ من الدستور منعت القيام بأيّ عمل آخر، مما يعني أن هناك حاجبًا أمام عملية الانتخاب في أي تعديل مباشر أو غير مباشر للدستور، سواء جرى تأمين أكثرية الثلثين أم لا، بدليل أن الفقرة الثانية من المادة ٧٨ من الدستور تمنع التعديل المستتر بنصّها: «لا يمكن للمجلس أن يجري مناقشة أو أن يصّوت الا على المواد والمسائل المحددة بصورة واضحة في المشروع الّذي يكون قدّم له»، عدا أن هذه المادة تؤكد المعيار الموضوعي في التعديل، أيّ ان التعديل لا يقع الا على مادة او نص واضح لا يقبل التأويل، ما يمنع، والحال هذه، حصر التعديل في الاكتفاء بأكثرية الثلثين في انتخاب الرئيس!
– أن لا يتم التعديل باقتراح نيابي بموجب المادة ٧٧ من الدستور التي حصرت هذا الحق الا في العقد العادي (أي العقد الذي يسمح للمجلس الاجتماع خلال المهلة الدستورية المحددة في المادة ٣٢)، انما يجب أن يتم الاقتراح بناءً على طلب رئيس الجمهورية، فتقدّم الحكومة، حينئذٍ، مشروع التعديل الدستوري بموجب المادة ٧٦ من الدستور، مما يعني أن جلسة ٩ كانون الثاني تقع خارج الانعقاد العادي الذي تنتهي مدته في ٣١ كانون الثاني، الأمر الذي يمنع المجلس النيابي اقتراح التعديل بناءً على طلبه، بل بناء على طلب رئيس الجمهورية. فهل يمكن للحكومة أن تمارس هذه المهمة نيابة عن رئيس الجمهورية سندًا للمادة ٦٢ من الدستور؟
لما كان الدستور لم يحسم هذا الأمر بصيغة واضحة وخاصة، فإنه يجب العودة الى الفقه الدستوري ومن بينه رأي العلّامة ليون دوغي عندما شرّح دستور الجمهورية الفرنسية الثالثة كمصدر مباشر لدستور ١٩٢٦، وأكّد بأن المجلس النيابي الملتئم لانتخاب رئيس للجمهورية يمنعه خلال ممارسة العملية الانتخابية القيام بعمل آخر، وبالتالي خارج هذه العملية يظلّ البرلمان محتفظًا بصلاحياته التشريعية.
ولأنّ التشريع ينقسم، في ماهيته، إلى نوعين: تشريع عادي (اقرار القوانين العادية) وتشريع أساسي (اقرار القوانين الدستورية ومنها التعديلية)، فأيّ تعديل للدستور، في ظل الشغور الرئاسي يكون ممكنًا ولو قياسًا ما دام معظم فقهاء الجمهورية الثالثة آنذاك لم يجدوا أيّ قيّد في تعديل الدستور فور شغور سدة الرئاسة ما خلا صلاحية حلّ البرلمان لكونها تؤدي إلى عرقلة انتخاب رئيس الدولة، وبالتالي تستطيع الحكومة، عندئذ، وضع مشروع التعديل الدستوري، شريطة أن يتم هذا الدور ضمن ممارسة المجلس مهامه كسلطة تأسيسية لا كسلطة انتخابية عملاً بالفقرة الأولى من المادة ٧٨ من الدستور بنصّها «اذا طرح على المجلس مشروع يتعلّق بتعدبل الدستور يجب عليه (المجلس) أن يثابر على المناقشة حتى التصويت عليه قبل أيّ عمل آخر».
خامسا: أن لا يقع التعديل الدستوري على نصٍ لمرة واحدة أو بصيغة استثنائية: من الثابت أن مجلس النواب، كسلطة تأسيسية أو تشريعية، يستطيع أن يعدّل أحكاماً قانونية أو دستورية ما دام هذا التعديل لا يستهدف نصاً دستورياً أو حقّاً دستورياً أو أحد المبادئ ذات القيمة الدستورية، وبالتالي يُصبح جائزاً، بمكان، تعديل شروط انتخاب رئيس الجمهورية أو مدة ولايته، الا أن هذه الإمكانية تُصبح، برأينا، محظورة عندما تأتي لمرة واحدة، لكونها لم تأتِ كإستجابة لتطلعات الشعب، بل كتعبير عن ميول وأهواء «الهيئة الحاكمة» خلافًا للفلسفة السياسية لتعديل الدساتير النابعة، اصلا، عن حاجة المجتمع التي لا يجوز اختزالها بفئة دون سواها بما يهدم مبدأ المساواة كحقّ دستوريّ، علاوة على أن هكذا تعديل يعني أننا نحصر أحكامه على زمانٍ وغرضٍ معيّنين، وبالتالي مخاطبة أشخاص بعينهم، بما يخالف صفة التجريد والعمومية الواجب اقترانها في اقرار القاعدة الحقوقية التي تصدر بشأن أفعال أو أوصاف تمثّل علاقات نمطية ذات طابع موحد، وتتكرر إلى أجل غير معلوم، حيث يتم تطبيقها على أشخاص عند توافر الشروط حاضراً ومستقبلاً طالما القاعدة القانونية قائمة ونافذة، في حين أن التعديل الاستثنائي، ومنه تعديل نص المادة ٤٩، مرتبط بمدة ولاية المخاطبين أو في أوضاعهم الخاصة ، وهذا ما لا يتوافق مع قرار المجلس الدستوري الرقم 2/2012 بنصّه «يجب أن يكون القانون واحداً لكل المواطنين، أو واحداً لجميع المنتمين منهم الى اوضاع قانونية متشابهة، ولا يجوز اعتماد قانون مفصّل على اشخاص محددين»، ما يعطي صفة التجرد والعمومية مضموناً دستورياً بحتاً لا تجوز مخالفته عند إقرار القواعد الحقوقية، فكيف اذا كانت القواعد المزمع تعديلها من طبيعة دستورية؟!
جرّاء ما تقدّم، يتبيّن لنا أن اتمام الانتخابات الرئاسية من دون عوائق يتطلّب مراعاة احكام المادة ٤٩ من الدستور، وإلا تعديل الدستور ضمن قواعد عامة ومجرّدة لا ضمن أهواء تنتجها مصلحة الطبقة السياسية أو تفسيرات دستورية غبّ الطلب.
المصدر : الاخبار