يورغو شلهوب في دور سمعان: بين وهم السيطرة والانكسار الإنساني

0
235

أداء استثنائي في دور متعدد الأبعاد

يجيد يورغو شلهوب تجسيد الشخصيات المركّبة التي تعيش تحولات نفسية عميقة، وقد برع في تقديم شخصية سمعان، الرجل الذي يتأرجح بين السلطة الذكورية التقليدية والهشاشة العاطفية المخبّأة خلف قناع القوة. منذ اللحظة الأولى، يظهر سمعان كرجل صارم، صوته مرتفع وحضوره طاغٍ، يفرض كلمته داخل المنزل دون اعتراض، لكن هذه السطوة ليست سوى غطاء لضعف داخلي عميق، يهرب منه عبر استبداده بمن حوله.

لم يقدّم شلهوب سمعان كرجل متسلط فحسب، بل أضفى عليه أبعادًا إنسانية جعلته أكثر تعقيدًا وواقعية. بنظراته المتوترة، وجسده الذي يتحرك بحذر بين يقينٍ مهتزّ وصمتٍ محمّل بالصراعات الداخلية، استطاع أن ينقل للمشاهد التحولات الدقيقة التي تمر بها الشخصية دون الحاجة إلى خطاب مباشر يفسّرها.

بين الأم المتسلطة والزوجة المظلومة: الصراع الداخلي لسمعان

يقف سمعان عند مفترق طرق بين ولائه لأمه المتحكمة بكل تفاصيل حياته وبين زوجته نهاد الشامي التي تعيش في ظل هذه السيطرة. نشأ تحت جناح امرأة تمارس التلاعب العاطفي بذكاء، تغلف سطوتها بغلاف الحنان، لكنها في الحقيقة تسلب ابنها استقلاليته، وتحوله إلى أداة لتنفيذ إرادتها.

من جهة أخرى، تجد نهاد نفسها وحيدة في معركة غير متكافئة، تحاول الحفاظ على كرامتها أمام رجل يظن أنه صاحب القرار، بينما هو في الواقع مجرد امتداد لسلطة والدته. لم يكن سمعان في جوهره رجلًا شريرًا، لكنه ضحية تربية قائمة على مفاهيم مشوّهة عن الرجولة والطاعة العمياء. هذا التناقض بين قوته الظاهرية وضعفه الداخلي جعل أداء شلهوب أكثر واقعية، حيث قدّم شخصية لا يمكن تصنيفها بسهولة بين الخير والشر، بل إنسانًا تحكمه أوهامه ومخاوفه.

التحوّل التدريجي: من الغرور إلى الإدراك

أحد أبرز عناصر التميّز في أداء شلهوب كان التطوّر التدريجي للشخصية. في البداية، يبدو سمعان واثقًا من صواب والدته، لا يخطر بباله أبدًا أنها قد تكون سبب معاناة زوجته. لكن شيئًا فشيئًا، تتسلل الشكوك إلى عقله، ومعها تبدأ ملامح الحيرة في الظهور على وجهه، في نظراته التي باتت أكثر قلقًا، وصمته الذي صار أثقل من أي كلمات.

هذا التغير لم يكن لحظيًا أو دراميًا بشكل فج، بل تشكّل عبر لحظات صامتة لكنها غنية بالمعاني:

نظراته إلى نهاد حين تبكي، وكأنه يراها لأول مرة خارج الصورة التي رسمها له عقلُه.

تردّده في الحديث، حيث يبدو وكأن الكلمات تتلاشى في فمه، غير قادر على تكرار العبارات القاسية التي كان ينطق بها بسهولة في السابق.

ارتباكه أمام المواقف الحاسمة، كأنه يصارع نفسه قبل أن يتخذ قرارًا يخالف ما تربّى عليه.

هذا التحوّل يجعل المشاهد يرى سمعان ليس كديكتاتور تراجع فجأة، بل كرجل بدأ أخيرًا في التفكير، في التشكيك بمسلّماته، وإدراك أن القوة الحقيقية لا تُفرض، بل تُكتسب بالاحترام والتفاهم.

ذروة الأداء: المواجهة والانكسار

تصل الشخصية إلى ذروتها حين تنكشف أمام سمعان حقيقة والدته، ويدرك كيف كانت السبب الرئيسي في دمار علاقته بزوجته. هنا، يقدّم شلهوب أداءً استثنائيًا بعيدًا عن المبالغات العاطفية أو الصراخ المعتاد في لحظات الانهيار. بل يتحدث الصمت والانكسار أكثر من أي حوار:

عيناه، التي كانت في البداية تحمل صلابة الرجل المسيطر، تتحول إلى عيون رجل أدرك أنه كان أعمى طوال حياته.

صوته، الذي كان صارخًا ومتسلطًا، يصبح أكثر هدوءًا، لكنه مشبع بالخيبة والندم.

جسده، الذي كان يقف بثبات وغرور، ينحني قليلًا، كأنه يحمل على كتفيه أوزار السنوات الماضية.

هذه اللحظة ليست مجرد نقطة تحول درامية، بل هي لحظة إدراك وجودي، حيث يرى سمعان نفسه لأول مرة كما هو، لا كما أراد أن يكون.

لغة الجسد والصمت: أدوات تمثيلية بارعة

تميز أداء يورغو شلهوب باستخدامه القوي للغة الجسد والصمت، بعيدًا عن الخطابات المطوّلة أو الانفعالات الزائدة. فقد اعتمد على تفاصيل صغيرة، لكنها مؤثرة بعمق:

نظرات تحمل صراعات نفسية معقدة، تعكس تردّده، وخوفه من الحقيقة، ورغبته الدفينة في إصلاح ما أفسده.

لمسات خفيفة، كأن يضع يده على وجه نهاد بحنان، في لحظة نادرة تعكس إحساسًا بالذنب، وكأنه يعتذر بصمته.

حركاته بين الغرور والانكسار، حيث ينتقل من مشيته الواثقة إلى خطوات متثاقلة، وكأن الحياة أصبحت أثقل مما كان يتخيل.

طريقته في الحديث بعد الانهيار، إذ تصبح كلماته أكثر هدوءًا، لكنها مشبعة بقهر داخلي، كأنما يود لو يعود بالزمن ليصحح أخطاءه.

هذه التفاصيل جعلت الأداء ينبض بالحياة، إذ لم يكن مجرد تمثيل لدور، بل كان غوصًا حقيقيًا في أعماق شخصية تعيش صراعًا مع ذاتها.

يورغو شلهوب: فنان يصنع شخصيات لا تُنسى

يورغو شلهوب ليس ممثلًا يؤدي أدوارًا، بل يخلق شخصيات تعيش في ذاكرة المشاهد. في دور سمعان، قدّم أداءً مذهلًا مزج فيه بين القوة الزائفة والانكسار الحتمي، بين الهيمنة الظاهرية والضعف الدفين، بين رجل يعتقد أنه يملك السيطرة، وإنسان يدرك في النهاية أنه لم يكن سوى أداة في لعبة أكبر منه.

لقد أبدع في تقديم شخصية متعددة الأبعاد، تنبض بالمشاعر والتحولات، ما جعل سمعان ليس مجرد شخصية درامية، بل تجربة إنسانية مؤثرة، تثبت مرة أخرى أن يورغو شلهوب فنان حقيقي قادر على تحويل كل دور إلى حالة درامية صادقة لا تُنسى.

الناقد السينمائي شربل الغاوي.