دانييلا رحمة في نفس: حين يرقص البصر في قلب العتمة

0
38

ليس من السهل أن يجسد الممثل شخصية بعيدة كل البعد عن واقعه، لكن الأصعب من ذلك أن يقنعنا بحقيقتها، فيجعلنا ننسى أنه يؤدي دورًا تمثيليًا، ونتوهم للحظات أننا أمام واقع حي نابض بالحياة والمشاعر. هذا تمامًا ما فعلته دانييلا رحمة في مسلسل نفس، حيث لم تكتفِ بتقديم شخصية الفتاة الكفيفة، بل جعلتنا نراها بأعين قلبها، نحس بخطواتها المتعثرة، نسمع دقات نبضها، ونعيش لحظة بلحظة مع تحدياتها وصراعها مع العتمة التي تحاصرها.

كيف لفاقدة البصر أن ترقص؟

هنا يكمن جوهر التحدي وروعة الأداء. كيف لفتاة لا تبصر أن تتقن فنًّا يعتمد أساسًا على الإحساس بالحركة والإيقاع؟ كيف تسير بخطى ثابتة أو مترددة على مسرحٍ لا ترى ملامحه، وسط أضواء وظلال تتراقص حولها؟ في هذا الدور، تجاوزت دانييلا التمثيل التقليدي، فغاصت في أعماق الشخصية، لتمس جوهرها الحقيقي. لم يكن فقدان البصر تفصيلًا عابرًا في أدائها، بل كان محورًا بنيت عليه كل حركة، كل لفتة، كل نظرة شاردة، جعلتنا نؤمن تمامًا أننا أمام فتاة لا ترى، لكن روحها تستنير بإحساسها المرهف بالعالم من حولها.

إتقان التفاصيل: مفتاح الصدق الفني

ما يجعل أداء دانييلا رحمة في نفس متفردًا هو دقتها في التقاط التفاصيل التي تصنع الفارق بين التقمص الحقيقي والأداء السطحي. فقد اعتمدت على لغة جسد محسوبة بدقة، حيث جاءت نظرتها ثابتة لا تتبع حركة الأشخاص حولها، وكأنها تحدق في نقطة بعيدة لا تراها، بينما كانت أذناها تسترقان السمع بانتباه شديد لتعويض غياب الرؤية. كما أن خطواتها بدت مدروسة، لا مترددة ولا واثقة بالكامل، بل تحمل ذلك التوازن الهش بين الإدراك الحسي والخوف الكامن من المجهول.

ولم يكن الأمر مقتصرًا على لغة الجسد وحدها، بل امتد إلى تعبيرات وجهها التي حملت الكثير من المشاعر المتضاربة: الخوف، التحدي، الإصرار، والانكسار. جاءت عيناها، رغم فقدانها للبصر في الدور، متقدتين بحياة داخلية، وكأنهما تلمعان ببقايا ضوء دفين، في مفارقة مذهلة أضافت عمقًا لشخصيتها.

الرقص كاختبار حقيقي للإبداع

لعبت خبرة دانييلا في الرقص دورًا في صقل أدائها لهذا الدور، لكن الفارق هنا أنها لم ترقص كما فعلت سابقًا في تانغو، حيث كانت خطواتها واعية ومدروسة بناءً على الإيقاع المرئي والمسموع، بل كانت ترقص كما لو أنها تتبع نبضات إحساسها، تتماهى مع الموسيقى كأنها تستشعرها بحواسها الأخرى. لقد جسّدت مفهوم الرقص بصفته لغةً داخلية، تحرر الجسد من قيود البصر وتعتمد على الشعور العميق بالإيقاع.

وكانت السقطات المتكررة جزءًا من هذا الأداء العبقري، فلم تكن حركات مكتوبة في السيناريو وحسب، بل تحولت إلى مشاهد تعبيرية بالغة التأثير، حيث جعلتنا نحس بثقل اللحظة، وكأننا نحن من وقعنا معها، شعرنا بالألم الذي تسرب إلى أوصالها، وبالإصرار الذي دفعها للنهوض مجددًا رغم كل شيء.

تحدي العتمة وانتصار الروح

في نفس، لم تقدم دانييلا رحمة دور فتاة كفيفة فحسب، بل صنعت حالة فنية نادرة، جعلتنا نعيد النظر في مفهوم الرؤية نفسه. فقد أثبتت أن العيون قد تبصر ولكنها لا ترى، وأن الإدراك الحقيقي ليس مشروطًا بالبصر، بل بالإحساس العميق بالحياة وما يدور فيها.

هذا الدور لم يكن سهلًا، فهو من الأدوار التي تتطلب قدرة استثنائية على التقمص، حيث يجب على الممثل أن يعيش حالة الشخصية بكل تفاصيلها، لا أن يؤديها فقط. وقد نجحت دانييلا في هذا التحدي الصعب، فظهرت كما لو أنها وُلدت بهذه الحالة، مستعينة بقدراتها الجسدية والصوتية والانفعالية في آنٍ واحد، لتقدم أداءً أقرب إلى الحقيقة منه إلى التمثيل.

دانييلا رحمة: نجمة تكتب تاريخها الفني بحرفية وإتقان

بعد هذا الدور، لم يعد من الممكن الحديث عن دانييلا رحمة باعتبارها وجهًا جميلًا أو نجمة صاعدة فقط، بل أصبحت فنانة حقيقية، قادرة على تحدي ذاتها وتقديم أدوار مركبة تتطلب حسًّا عاليًا ومهارة تمثيلية رفيعة. لقد أثبتت أن التمثيل ليس مجرد مهنة، بل هو فن يحتاج إلى روح قادرة على التحول، والتماهي، والتغلغل في أعماق الشخصيات حتى تصبح جزءًا منها.

في نفس، لم تكن دانييلا ممثلة تؤدي شخصية فتاة كفيفة، بل كانت تلك الفتاة بالفعل، بعذاباتها، بأحلامها، بضعفها، وبقوتها في آنٍ واحد. وهنا يكمن جوهر الأداء العظيم: أن تجعلنا نؤمن بما نراه، حتى لو كان المستحيل نفسه.

الناقد السينمائي شربل الغاوي.