خاص : نايلا شهوان
في مطلع سبعينيات القرن الماضي، كانت الساحة اللبنانية تعاني من اضطرابات متصاعدة، على وقع التوترات الإقليمية والانقسامات الداخلية. لم تكن البلاد قد تعافت من آثار أزمة 1958، حتى بدأت تترسخ معادلة السلاح الفلسطيني داخل لبنان بعد اتفاق القاهرة عام 1969، والذي منح الفصائل الفلسطينية حرية العمل المسلح من الجنوب اللبناني.
في موازاة ذلك، كانت الانقسامات الطائفية والسياسية تتعمّق. برز تحالف “اللقاء اليساري” بقيادة كمال جنبلاط، بمواجهة أحزاب يمينية كـ”الكتائب” و”الأحرار”، وسط مؤسسات دولة بدأت تنهار تدريجياً بفعل الصراعات، وغياب أي مشروع وطني موحّد. أما الجيش اللبناني، فكان يعيش حالة تفكك صامتة، بين ولاءات متضاربة وشكوك دائمة في قدرته على الإمساك بالأمن.
وسط هذا المشهد المشحون، لم يكن لبنان بحاجة سوى إلى شرارة… وجاءت تلك الشرارة من حيّ صغير في الضاحية الشرقية لبيروت
في ظهيرة يوم الأحد، الواقع في 13 نيسان 1975، بدأت الأنباء تنتشر كالنار في الهشيم من منطقة عين الرمانة في الضاحية الشرقية لبيروت. روايات متضاربة سادت، بعضها تحدث عن محاولة اغتيال تعرّض لها رئيس حزب “الكتائب اللبنانية” الشيخ بيار الجميل خلال حضوره احتفالاً دينياً، وأخرى تحدّثت عن محاولة تسلل نفذها مسلحون فلسطينيون قادمين من مخيم تل الزعتر نحو عين الرمانة.
في المقابل، انتشرت شائعات في بيروت الغربية عن ارتكاب مسلحي حزبي “الكتائب” و”الأحرار” مجزرة بحق مدنيين فلسطينيين. ومع انتشار هذه الأخبار، دوّى الرصاص في الأحياء، تخللته أصوات متفجرات وعبوات ناسفة، فعمّ الذعر وبدأت ملامح الانفجار الوطني الكبير تلوح في الأفق.
البداية في كنيسة سيدة الخلاص
عند الساعة الحادية عشرة من صباح ذلك اليوم، كان من المفترض أن يُقام احتفال تدشين كنيسة سيدة الخلاص للروم الكاثوليك في شارع مار مارون في عين الرمانة، بحضور الشيخ بيار الجميل. وُضعت خطة أمنية للمناسبة، وحضرت قوة من الدرك لتنظيم السير في محيط الكنيسة.
في التوقيت نفسه، كانت “منظمة التحرير الفلسطينية” تنظم مهرجاناً تأبينياً لشهدائها في مخيم صبرا، بمشاركة مختلف فصائلها، ما جعل اليوم حساساً ومشحوناً بالتوتر.
شرارة التصعيد: الفولكسفاغن والفيات
حوالي الساعة العاشرة، دخلت سيارة فولكسفاغن يقودها منتصر أحمد ناصر، وهو لبناني من الجنوب ومن مقاتلي جبهة التحرير العربية الموالية للعراق، إلى عين الرمانة. ورغم اعتراض الدرك له، أصر على التقدم ليصطدم بشباب من الكتائب حاولوا منعه، فأُطلقت عليه النار وأُصيب بيده. نُقل إلى مستشفى القدس التابع للفصائل الفلسطينية، ثم اختفى في ظروف غامضة صباح اليوم التالي.
بعد أقل من ساعة، وقبل بدء الاحتفال، وصلت سيارة فيات حمراء بلوحات مطموسة وشعارات فلسطينية، وعلى متنها أربعة مسلحين. تخطوا الحاجز الأمني وأطلقوا النار على الحاضرين، فاستُشهد أربعة، بينهم مرافق الشيخ الجميل جوزف كميل أبو عاصي، وسقط عدد من الجرحى، بينهم طفل كان من المفترض أن يتلقى سرّ المعمودية لاحقاً في اليوم نفسه.
الردّ الدموي… و”الأوتوبيس”
ردّ أبناء المنطقة، ومن بينهم عناصر من حزبي “الكتائب” و”الأحرار”، على المهاجمين، ما أدى إلى مقتل أحد المسلحين وجرح اثنين آخرين، نُقلوا أيضاً إلى مستشفى القدس ثم اختفوا.
غير أن التصعيد بلغ ذروته مع دخول حافلة مليئة بالمسلحين الفلسطينيين إلى شارع بيار الجميل في عين الرمانة. كانوا يلوّحون بالأعلام ويرتدون بزات عسكرية، ويرددون الأناشيد، ما اعتُبر استفزازاً مباشراً للأهالي. لم تمر ثوانٍ حتى أُطلقت النار على الحافلة، فقتل 27 راكباً على الفور، ونجا السائق ورجلان فقط بعد أن غطّتهم جثث القتلى.
محاولات لاحتواء الكارثة
بعد الحادث، انتقل الشيخ بيار الجميل إلى البيت المركزي للحزب في الصيفي، وتلقى اتصالاً من رئيس الحكومة رشيد الصلح الذي طلب لقاءه مع وزيرَي الكتائب لويس أبو شرف وجورج سعاده.
في اللقاء الأمني الرفيع الذي جمع الوزراء وكبار المسؤولين الأمنيين، كان هدف الحكومة واضحاً: تهدئة الوضع بأي ثمن، حتى لو تطلب الأمر تقديم “أكباش فداء” من الطرفين. وعندما طُلب من حزب الكتائب تسليم أسماء متورطين، جرى تقديم لائحة عشوائية استخرجت من أرشيف الأمن الداخلي، دون أي أدلة فعلية.
لاحقاً، تبيّن أن بعض الأسماء التي قُدمت تعود لأشخاص كانوا خارج لبنان، أو يتلقون العلاج في مستشفيات، بل إن أحدهم قد توفي قبل الأحداث!
لغز الأوتوبيس… ومن أضل السائق؟
من بين أكثر الأسئلة التي بقيت بلا إجابة: لماذا سلكت الحافلة الفلسطينية طريق عين الرمانة، رغم الاتفاق المسبق مع قادة الفصائل على تجنب المرور من هناك؟ علماً أن 11 حافلة أخرى سلكت طرقاً بديلة.
السائق، وهو لبناني، أفاد للمحققين بأنه تلقى تعليمات من شرطي بلدي لتغيير وجهته إلى ذلك الشارع. وعندما حاولت القوى الأمنية التعرف على هوية ذلك الشرطي، لم تتمكن من تحديد شخصيته
الغموض المستمر… واندلاع الحرب
بُعيد منتصف الليل، كانت بيروت على شفير الانفجار. اتسعت رقعة العنف، وسُمعت الانفجارات في أكثر من حي، وتوالت الأخبار عن اشتباكات وعمليات انتقامية.
وفي مساء ذلك الأحد، اجتمعت قيادات الأحزاب اليسارية في منزل كمال جنبلاط، وأصدرت بياناً حمّلت فيه حزب “الكتائب” مسؤولية ما جرى، وطالبت بحلّه وعزله. وفي اليوم التالي، أي الإثنين 14 نيسان، قطعت الطرقات في الضاحية الجنوبية وأُحرقت الإطارات، لتعلن بذلك بداية الحرب الأهلية اللبنانية.
رغم مرور عقود على تلك اللحظة المفصلية، لا تزال هناك أسئلة كبرى بلا أجوبة: من كان وراء سيارة الفيات؟ ولماذا اختفى المسلحون الثلاثة من مستشفى القدس؟ من هو الشرطي البلدي المجهول الذي ضلّل السائق؟ وهل كان الحادث وليد الصدفة أم نتاج خطة محكمة لإشعال البلد؟
تاريخ 13 نيسان 1975 سيظل محفوراً في ذاكرة اللبنانيين لا كبداية حرب فقط، بل كلحظة فارقة مليئة بالأسرار، التي ما زال بعضها طيّ الكتمان… وربما لن يُفك شيفرته أبداً





